محمد الشماع - عمر خيرت
محمد الشماع - عمر خيرت


محمد الشماع يكتب عن: عمر خيرت.. شخصية العام الثقافية

محمد الشماع

الإثنين، 15 مايو 2023 - 11:25 م

هيا اقترب.. في الاقتراب حياة
أسير يوميًا في شارع بورسعيد بالسيدة زينب، أمر على شارع خيرت. أصدقاء وأحباب سكنوا هنا، أسير بشكل طبيعي، أتناول طعامي من بعض المطاعم المشهورة. لا أشعر أن شيئًا مختلفًا، سوى بساطة الشعب، وبساطة الناس، ووجوه سعيدة، وبشر يسيرون مثلي، إلى عمل يذهبون أو إلى أصحاب وأحباب يسكنون المنطقة أو بالقرب منها.
على غير هدي، سألت نفسي صغيرًا لماذا أسموه «شارع خيرت»؟. لا إجابة واضحة، فـ«السيدة زينب» القريبة من الشارع هي سيدة المقام ورئيسة الديوان، والتي يقبع مسجدها وضريحها في المنطقة القريبة. و«المنيرة» التي يتقاطع معها الشارع هي تلك الهانم التي تحمل اسم منيرة سلطان، ابنة السلطان العثماني عبدالمجيد الأول، والتي تزوجت من الأمير إبراهيم إلهامي باشا ابن والي مصر عباس الأول، والذي بنى لها قصرًا في هذا المكان في سبعينيات القرن الـ19. أما «لاظوغلي» الميدان القريب، فهو ذلك الرجل المسمى بمحمد لاظوغلي باشا، الذي جاء إلى مصر برفقة محمد علي باشا عام 1799، ليشترك في الحرب ضد الفرنسيين في معركة «أبو قير» البرية لحساب الامبراطورية العثمانية، والذي كان الرجل الثاني في دولة محمد علي في وقت من الأوقات، غير أنه كان عازفًا عن الظهور رغم دوره الكبيرة. 
و«بورسعيد» هو الشارع الأهم في المنطقة، ولا يحتاج اسمها إلى شرح، فقط شارع خيرت هو من يقف أمامي.
هيا اقترب.. في الاقتراب معرفة
المعلومة الأولى التي وصلتني عن الشارع هي أنه شارع أول من سكنه وعمّره عائلة تسمى بعائلة «خيرت». هذا تقليد معروف في شوارع مصر، التي تحمل العديد من أسماء أوائل الناس التي سكنوها. يستمر سيري واقترابي من الشارع إنسانيًا أكثر فأكثر. يستمر مع الزمن تأملي للناس والبيوت والحارات المتفرعة، أستمر في زيارة الأحباب والأصحاب، أستمع إلى كلمة هنا وكلمة هناك، وأعرف أكثر.
أقترب من ضالتي حينما قال أحدهم أمامي أن الموسيقار عمر خيرت كان يسكن في هذا البيت. نعم هو ذلك الموسيقار جميل الطلة، الذي يجلس على البيانو يعزف موسيقاه، ليصفق الناس. نعم هو الذي تسمع البيانو دائمًا في كل أعماله. نعم هو ذلك الضحوك الذي بدأ يغزو الشعر الأبيض رأسه منذ فترة قصيرة. لكنه بالتأكيد ليس ابن المكان، فشكله «ابن ذوات»، هيئته تليق على الحي القريب في «جاردن سيتي»، هو باشا من هؤلاء البشوات الذين يسكنون الحي في هذا الوقت.
هيا اقترب.. في الاقتراب حقيقة
عرفت أن الشارع مُسمى على اسم أجداده. عرفت أنه موسيقار يلحن كثيرًا من تترات المسلسلات ويضع الموسيقى التصويرية للأفلام. يعجبني لحن «إعدام ميت»، وكذلك أغنية «اللقاء الثاني»، هذا المسلسل الذي قام ببطولته محمود ياسين وبوسي، وكان يذاع على قنوات التليفزيون المصري في العشية. لم تكن الحياة بهذا الصخب الفضائي والتكنولوجي. فقط ثلاث قنوات، كان التركيز عليها قويًا. الرسائل الإعلامية تصل بحذافيرها، وقصص المسلسلات أيضًا. لا أستطيع في هذه المرحلة أن أميز معنى الموسيقى التصويرية، أو دورها في الأعمال الفنية، فقط هي حالة متكاملة من الإبداع، أتناولها كما أتناول الأكل والشرب والدراسة في المدارس الأميرية.
صور عمر خيرت ليست بانتشار صور محمود ياسين أو عادل إمام أو محمود عبدالعزيز أو نور الشريف أو حتى صور مهاجم النادي الأهلي الفذ حسام حسن وشقيقه التوءم إبراهيم. كما ليست بانتشار صور وردة أو عماد عبدالحليم أو حتى المطربين الجدد حينها محمد منير وعمرو دياب ومصطفى قمر وإيهاب توفيق وعلي حميدة فيما بعد. صور الموسيقيين عادة لا تكون مثل النجوم. صحافتنا في هذه الفترة عادة ما كانت تُجلسهم على المقاعد الخلفية نسبيًا، حتى يصير النجم على الواجهة. ولكنه كان يعمل، وكنت أستمع إلى أعماله، حتى وإن لم أكن أعرفها.
هيا اقترب.. في الاقتراب موهبة
أنا ابن الموسيقى التقليدية. أنا ابن ألحان بليغ حمدي التي كان يقدمها لعبدالحليم حافظ وأم كلثوم ووردة وفايزة. أنا ابن ذلك المشهد المعتاد لرجل أو سيدة يغني أو تغني وأمامها ميكروفون، ثم جموع عازفين في الخلفية، يعزفون اللحن الذي وضعه الملحن. أنا ابن هذا المشهد بامتياز، أعشق ألحان عبدالوهاب الذي غناها بنفسه. أطرب لفريد الأطرش، وأحب شادية وليلى مراد. أنا ابن هذا المشهد الذي يعتمد في الأساس على مطرب، أنا ابن هذا المشهد الذي عرفته مسارح مصر المختلفة، وكذلك اعتمدت عليه السينما المصرية أكبر اعتماد.
أنا ابن الموهوبين على مستوى الصوت والشعر والجملة الموسيقية والتوزيع. أنا ابن الأغنية التي سرت في وجدان الشعب لسنين طويلة، أنا ابن هؤلاء الذين كانوا يغنون لمطربين قدامى ومحدثين. أنا ابن الذين بشروا حتى بمنير ودياب وبجيل من المطربين. أنا ابن هؤلاء الذين هاجموا الأغنية الشبابية في كثير من مراحلها. أنا ابن هذه التجربة، ولا أعرف شوبان أو بيتهوفن، ولا أعرف لماذا يجلس الآلاف في أوبرات العالم يستمعون إلى هذه الموسيقى بدون المطرب. لا أعرف كيف يميزون مقطوعة باخ من مقطوعة تشايكوفسكي. كيف لهؤلاء أن يعرفوا الفارق بين الاثنين من دون كلمة أو مطرب يغني.
حتى موسيقى «شهرزاد» دندنتها مع الأغنية التي غنتها سميرة سعيد في أغنية «إحكي يا شهر زاد» التي كتب كلماتها عبدالوهاب محمد، ولحنها جمال سلامة مستلهما الموسيقى الأصلية لـ«شهر زاد» لكورساكوف. الموسيقى الخالصة لم تكن من بين أولوياتي، حتى وإن كنت أطرب لها قليلاً.
هيا اقترب.. في الاقتراب مُدخلٌ
محسن محيي الدين يقدم مشهدًا بديعًا في «اليوم السادس»، يرقص ويغني على كلمات «مسمعتش يا غايب حدوتة حتتنا»، الموسيقى تنساب بعبقرية، تنقسم فجأة من شعبية بسيطة إلى أوركسترالية مدهشة. محسن يقدم استعراضًا ربما لم يُقدم مثله في السينما المصرية بكاميرا يوسف شاهين. أضواء تطغى على مشاهد الفيلم الكئيبة، وتزحزح ما كان مسيطرًا عليّ من «بعد الطوفان» وصوت محمد منير الحزين، والموسيقى التي انسابت من بعدها لتؤكد أن الأمور ليست في أفضل أحوالها. 
تقف أنغام، وإلى جوارها طلعت زين يغنون «100 سنة سينما»، لا أستطيع إلا أن أقع أسير في هذا الجمال وهذه الروعة. لا أستطيع إلا أن أصرخ بأن هذا اللحن من أهم وأروع ألحان قدمت في سنوات التسعينيات، حيث كانت موجات الصخب مسيطرة تمامًا على المشهد، إلا القليل. تنتهي أنغام وينتهي طلعت، ويبدأ المُدخل لفهم موسيقى هذا الرجل.
من مقدمة كتاب «المتمرد» سيرة حياة عمر خيرت
تقديم وتحرير: محمد الشماع

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

مشاركة