علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب


يوميات الأخبار

عين على التاريخ.. عين على المستقبل

علاء عبدالوهاب

الثلاثاء، 14 مايو 2024 - 08:42 م

«ما أتصوره ربما تكتنفه الكثير من الصعاب، لكنه الممكن الذى لا بديل عنه، ليس هناك مستحيل فى التاريخ، تفاءلوا بالمعنى التاريخى للكلمة، أرجوكم

أجمل أوقاتى وأسعدها، تلك التى أقضيها فى حوارات حول المستقبل، مع من يمثلونه بكل المعانى والأوجه.

حين أكون محاطاً بشباب من العائلة أو المعارف، ممن هم فى عمر الأبناء، ومن شبوا عن الطوق فتجاوزوا أعمار الأحفاد، فإن الحوار يكتسب حيوية فائقة، وسخونة محببة، رغم حرارة الجو، التى أصبحت متنامية، إيذاناً باقتراب هجوم فصل الصيف الذى تؤشر بشائره أنه سيكون بين الأكثر سخونة منذ عقود.
وبالطبع؛ فإن الحوارات فى تلك الأيام، لا تبتعد عما تشهده فلسطين، ولا أقول غزة، فليست وحدها المشتعلة، فالضفة أيضاً تقاوم ولا تسلم من يد العدو الباطشة، وعرب ٤٨ لا يكفون عن التململ والمساندة، والمحيط العربى يتفاعل بدرجات متفاوتة، والضمير الإنسانى العالمى استيقظ على مستوى الشعوب، فى صحوة فريدة غير مسبوقة، و...و...

هكذا؛ يتسق «جو الحوارات» مع المشهد بأبعاده ومفرداته، ثم يسلم كل حوار حول الصراع العربى/ الصهيونى، ولا أقول الفلسطينى/ الإسرائيلى، لنقطة أكثر تقدماً، لاسيما إذا كان «مُطعماً» ببعض من شاركوا فى لقاء سابق، انفض على وعد باستكمال ما لم نتطرق إليه، بفعل ضيق الوقت، وربما طوله!
وبعد تأمل وتدبر، كنت ميالاً لعرض مقتطفات من هذه الحوارات، لعلها تمثل إضاءات على فكر الجيل المسئول عن صياغة المستقبل وصناعته.
من ينتصر فى النهاية؟

ظهر الاثنين:

أستطيع أن ألخص أسئلة ذلك الحوار ـ فى جوهرها ـ بعنوان هذه الفقرة.

كان هناك من يعلن عن قلقه المشروع من طول المواجهة، وامتداد الصراع عقوداً وراء أخرى، وجيلاً بعد جيل، وأن يتساءل ـ محقاً ـ دون أن يشى ذلك بتسرب يأس، أو أن يختلط بغياب يقين، لأنهم يجمعون على أن العبرة بالخواتيم.

سأل شاب عشرينى:

هل علينا أن ننتظر قرناً آخر، قياساً على عمر الصراع مع الصليبيين مثلاً، وهو النموذج الذى نستدعيه دائماً للمقارنة؟

قلت: حتى وإن طال المدى وفق النموذج الصليبى، فإن درس التاريخ يحمل فى طياته الأمل الحاسم، وإن كنت أشك فى صحة هذا القياس، صحيح أن كليهما طارئ، وأقرب إلى الجملة الاعتراضية فى السياق التاريخى، لكن علينا ألا ننسى أن عمر أى دولة يهودية  عبر التاريخ، لم يتجاوز الثمانية عقود، وربما فسر ذلك تلك العصبية الزائدة التى يتصرف بها الصهاينة المتطرفون منذ أكتوبر، وهنا لابد من استدراك، فالمشهد الراهن فى الكيان الصهيونى يشير دون أى لبس إلى أن «الكيان المأزوم» بات فى مجمله عنواناً للتطرف الذى لا نظير له.

تساءل شاب آخر:

لماذا لا نستدعى إلا ما حدث مع الاحتلال الصليبى؟

قلت: معك الحق كله، فهناك التتار والمغول، فقد سادوا العالم فى حينهم، لكنهم كانوا ضد حركة التاريخ، ولم يكن إيمانهم بالسلب والنهب والعدوان، يتقابل مع المفهوم السوى للحضارة، فاندحروا فى نهاية المطاف، وتكسرت نصالهم، وانتصر أصحاب الحق من الشعوب التى وقعت زمناً فى أسرهم، ودافعت عن حقوقها المغتصبة ثم استردت أرضها السليبة.

عُقدة الثمانين سنة!

مساء الثلاثاء:

لقاء آخر، وحوار ممتد، وجوه جديدة، وأخرى شاركت فى الحوار الأول، وكان لافتاً أن يبادر شاب حضر اللقاء السابق، بسؤال لم يخل من نبرة سخرية حاول أن يكتمها، لكن انفعاله كشف أمره: هل علينا أن نتوقع أن ينهار الكيان الصهيونى بعد أربعة أعوام من الآن؟!

وقبل أن أجيبه، أضاف صديق يجاوره.

تقصد العام الذى يوافق مرور ٨٠ سنة على ميلاد الكيان الصهيونى فى نسخته الأخيرة؟!

لم أستطع أن أكتم ابتسامة أفلتت من بين شفتى قبل أن أجيب:

يا أبنائى، لا نستطيع أن نقول إن التاريخ يعيد نفسه بحذافيره، فهذا أمر محل تحفظ موضوعياً ومنهجياً، والشرح هنا يطول، لكن الشاهد أن التاريخ تظل دروسه ينبوعاً نستقى منه، ومنارات تضفى بإشعاعها عند التعاطى مع اللحظة الآنية، ثم الآتية، والكيان الصهيونى ـ كفكرة وحركة ـ يعمل فى اتجاه معاكس لتيار التاريخ، ليس فقط بعوامل ضعفه، وإنما أيضاً بعوامل قوته المتمثلة فى آلة حرب غاشمة، وإحساس بالتفوق على أسس عنصرية، مما يدفعه نحو دائرة سيطرة تضخم الذات، وبدورها تقوده لمزيد من الممارسات العدوانية، وتلك هى الحفرة التى سوف تقوده للهلاك.

ثم بعد صمت برهة، أردفت: مرور ثمانية عقود لا يعنى حتماً أن ذلك موعد يضربه القدر لنهاية الكابوس الصهيونى، لكن ربما تنخر فى هيكله العديد من عوامل التآكل الذاتى، فضلاً عن تحولات فى الموقف الدولى، وبالتحديد فى الغرب بقيادة أمريكا، تحت ضغوط غير مسبوقة من فئات بلا حصر فى الرأى العام.

ثم قلت لهم متسائلاً: ألم يستوقفكم تيار كاسح من المظاهرات فى الجامعات الأمريكية، أمتد إلى نظيراتها الأوروبية، ثم جامعات أخرى فى جميع القارات، لكن الأهم ما حدث فى الغرب من الشباب الجامعى تحديداً، ألا يترجم ذلك تحولاً جذرياً، فإذا وضعنا فى الاعتبار أن هؤلاء الشباب هم النخبة القادمة، فإن الأمر يؤشر إلى تحول نوعى متوقع فى مدى جيل أو جيلين على الأكثر، وعندما يكون هؤلاء فى موقع صناعة القرار فى الغرب، فإن الرهان على كسر حدة التداخل بين الكيان الصهيونى والقوى الغربية ـ إلى درجة التوحد أحياناً ـ خاصة فى أمريكا، مسألة يمكن التعويل على مردوداتها فى الخصم من رصيد القوة الشاملة لهذا الكيان.

اختتم شاب ثلاثينى اللقاء بسؤال أحسبه ذا مغزى مهم:

سواء كان علينا الانتظار بضعة أعوام أو عقود، ماذا علينا أن نضعه نصب أعيننا خلال هذا المدى؟

ودون تردد قلت:لابد من الحساب لكل خطوة نخطوها بعيداً عن الشعارات والمشاعر، بل دون أن نتصور أن «الآخر الغربى» سوف يضع محل اعتباره معايير العدل والحق، ويودع انحيازه الرسمى المطلق للصهاينة، أيضاً ألا نبالغ فى الرهان على التفاعل الذاتى للأزمة فى الكيان الصهيونى، ثم الرهان على تعظيم القدرة على المقاومة العربية بمفهومها الواسع، ثم أن العقلانية والرشادة فى النظر لكل ما يتعلق بالصراع مع هذا الكيان، ضمانتان هامتان عند حساب دقيق لعناصر قوتنا، بالطبع فضلاً عن حسابات القوة الشاملة بكافة عناصرها، والإنسان فى القلب منها، وهنا لابد من النظر بعين الاعتبار للنموذج المصرى فى امتلاك القوة وفق هذا المنظور، الذى يجعل الكيان الصهيونى يفكر مائة مرة قبل أن يخطر ببال قادته مجرد خاطر فى اختبار مصر.

صعب لكنه ليس مستحيلاً

عصر الأربعاء:

لقاء ثالث، وصحبة شابة واعية، راقية، متابعة لما يدور.

انطلق الحوار حين سألنى من اقتحم عتبة الشباب بالأمس القريب:

أظن أن ما ينتظرنا خطير، فالأمر لا يحتمل الغرق فى الأحلام، أو الوقوع فى براثن التفاؤل المفرط، دون السعى لرسم رؤية لمستقبل الصراع، ألست محقاً؟
قلت: نعم، أوافقك تماماً، ما حدث على مدى شهور منذ ٧ أكتوبر وحتى اليوم، لابد أن يقودنا إلى التحلى بالجدية وبالشدة اللازمة، وعيا وتخطيطا، وعملاً فعلياً لمواجهة تحديات المستقبل، ومن ثم رسم الرؤى المناسبة لإدارة الصراع، الذى أحسب أن إسرائيل ومن وراءها، وبالتالى «نحن» نصنفه «وجودياً»، وإلا كان مصيرنا الخروج من التاريخ، وفقدان القدرة ـ بالتالى ـ على صناعة المستقبل.

وتابعت: يا أبنائى ما حدث فى ٧ أكتوبر، وما أعقبه، كسر العديد من الحواجز، وكبد الكيان الصهيونى خسائر فادحة على أصعدة عدة، يكفى أنه فضح جوانب أزمته المتعددة، ثم كشف نواياه العدوانية تجاه الإقليم برمته، ودولياً بات عارياً حتى من ورقة التوت بكشف زيف ادعاءاته بالأخلاقية والديمقراطية، حيث كان يزعم أنه فقط الذى يتحلى بها وسط أحراش المنطقة!!

كان واضحاً تجاوب الشباب مع ما أطرحه، فقد أضاءت الوجوه بعلامات التفهم لرؤيتى.

شجعنى ذلك فأضفت: رغم كل التضحيات الهائلة التى دفع ثمنها الغزاويون بفعل المذابح والمجازر الوحشية بحقهم، فإن غطرسة القوة انفضح زيفها، وتهافتها، لاسيما مع تشارك قادة الكيان الصهيونى مع الكثير من النخب الحاكمة فى الغرب، فى اكتساب صفة القبح، مع تدنى مستوى الحساسية لآلام البشر، وهدر القيم الإنسانية، مما يعنى أن التدنى الحضارى لهؤلاء، وأولئك، بات يخصم من رصيدهم، لصالح أصحاب الحق فى فلسطين بخاصة، والعرب بعامة.
فاجأنى شاب يبدو شديد الهدوء بنقطة نظام مقاطعاً:

عفواً، يبدو لى أن ثمة سؤالاً لم نطرحه حتى الآن: ماذا علينا أن نفعل ونحن فيما يبدو فى مفترق طرق حاسم؟

قلت: بداية تساؤلك جدير بالتحية والاهتمام، وعلينا أن نعترف بأنه إذا كان العرب غير قادرين على فرض تصورهم للسلام العادل الآن، فإن هذا الأمر ليس قدراً غير قابل للتجاوز، وربما يؤكد ما حدث إبان حرب أكتوبر ١٩٧٣، أن العرب بمعايير القوة غير المنظورة أحياناً، سوف يكونون قادرين على طرح، ثم فرض خيارهم، والتوصل إلى سلام حقيقى.

يا أبنائى: العالم كله وإسرائيل كذلك ـ على يقين أن بمقدور العرب امتصاص الأزمات مهما كان عنفها، وأنه لايمكن إلحاق الهزيمة النهائية أو التامة بهم، هكذا يقول التاريخ، ثم إن عنصر الوقت يصب فى صالح العرب فى المديين المتوسط والبعيد، وبالمقابل فإن الأمر بالنسبة لإسرائيل على النقيض تماماً.

المهم ألا تتسرب روح اليأس إلينا قط، وأن يرتقى إدراكنا للحقائق بكل أبعادها، وأن نتمكن من أصول إدارة الصراع وقواعده الصحيحة، ثم السهر على تعظيم قدراتنا المشتركة، وقوتنا الشاملة، وأن نتحرك ـ كعرب ـ على كافة المسارات الإقليمية والدولية، بهدف ممارسة قدر من التأثير الذى يقود لتسوية سلمية عادلة، وأن نحذر الوقوع فى براثن أسلوب «الآخر» الذى يسعى فقط لكسب الوقت لصالحه، وهدره بالنسبة لنا، ثم أن يصر العرب على ربط أى تقدم فى علاقاتهم بالكيان الصهيونى بالتغيير الإيجابى عبر السير فى عملية تسوية سلمية حقيقية تتمخض عنها دولة فلسطينية وفقا للشرعية الدولية.

يا أبنائى، ما أتصوره ربما تكتنفه الكثير من الصعاب، لكنه الممكن الذى لا بديل عنه، ليس هناك مستحيل فى التاريخ، لكن علينا أن نقرأ صفحاته بوعى وعمق كافيين، تفاءلوا بالمعنى التاريخى للكلمة أرجوكم.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

مشاركة