السينما أقوى الأسلحة الناعمة في مواجهة الفساد والاستبداد وتهديد أي نظام مهما كان ومهما بلغت قوته وغطرسته، وهى في القوت ذاته أقوى أدوات أي نظام في توجيه الرأي العام وبسط النفوذ. 

لذلك كان للسينما منذ بدايتها علاقة مزدوجة بثورات الشعوب أدركها جيدا ومبكرا جدا قادة ثورة يوليو التي احتضنت السينما المصرية ومنحتها دعما غير محدود فعاشت عصرها الذهبي الذي بلغ ذروته في الستينات وبداية السبعينات ثم تهاوت مع انهيار مكتسبات الثورة ومبادئها.

أول الأفلام بعد ٣ سنوات
انطلقت الثورة لتفجر في المجتمع المصري طاقات هائلة مبدعة كان للسينما نصيب كبير فيها غير أن الأفلام التي رصدت الثورة وتناولتها لم تكن الأفضل بين الإنتاج السينمائي في هذه الفترة خاصة الخمسينات .. كان «الله معنا» من أول الأفلام التي أنتجت عن الثورة ويعد أول توثيق لها، تم تصويره في نفس العام وأنجز في أربعة أشهر فقط وهو يرصد فساد الملك وقيادات الجيش وقضية الأسلحة الفاسدة فاندلعت الثورة لكنه لم يعرض إلا بعدها بثلاث سنوات لأسباب رقابية غامضة ومتضاربة لم يحسمها أحد حتى الآن.

قيل إن عبد الناصر هو الذي منعه من العرض ثم في رواية أخرى هو الذي سمح بعرضه بعدما شاهد نسخة من الفيلم الذي أخرجه أحمد بدرخان وشارك في بطولته عدد كبير من نجوم السينما المصرية منهم فاتن حمامة وماجدة وشكري سرحان وعماد حمدي. ورغم الإمكانات الفنية والمادية التي وفرها بدرخان للفيلم إلا أنه كان فيلما ضعيفا من الناحية الفنية ويبدو أن السرعة في إنجازه كان لها تأثير على مستوى الفيلم رغم حماس بدرخان ووطنيته وإيمانه بالثورة، وكان قد أنجز فيلمه الشهير «مصطفى كامل» عن الزعيم مصطفى كامل في نفس العام أيضا وعرض بعد الثورة ببضعة أشهر.

وثيقة الثورة
تبقى الخمسينات بلا علامات واضحة في السينما خاصة عن الثورة فيما عدا «رد قلبي» لعز الدين ذوالفقار بطولة شكري سرحان ومريم فخر الدين وأحمد مظهر، عرض عام ١٩٥٧ ويرصد معاناة الشعب المصري من الطبقية وسيطرة الإقطاع قبل الثورة من خلال على ابن الجنايني الذي يقع في حب إنجي ابنة الباشا الإقطاعي الذي ينكل به عندما يعلم برغبته في الزواج من ابنته ويتحمل على وأسرته الذل والإهانة حتى يصبح ضابطا بالجيش ثم تقوم الثورة ويرأس لجنة مصادرة أملاك الباشا ضمن الإقطاعيين وتتصاعد الأحداث.

ويعده البعض أهم الأفلام عن ثورة يوليو وإن كان واقعيا هو أشهرها وأكثرها جماهيرية واهتماما إعلاميا وحسب فرغم اختياره كواحد من أفضل مائة فيلم في السينما المصرية إلا أنه ليس أفضل الأفلام التي تناولت ثورة يوليو على المستوى الفني والفكري كمعظم أفلام الخمسينات التي فشلت في تقديم فيلم يرقى لمستوى ثورة يوليو بإنجازاتها وطموحاتها الهائلة، كما لم يكن هناك فيلم يرصد أو يوثق الثورة رغم اهتمام رسمي واضح بالسينما في هذه الفترة تبلورت نتائجه في الستينات .
 
العدوان الثلاثي
وكانت أهم الأفلام التي قدمت في الخمسينات ما يتناول العدوان الثلاثي وتدعو وترسخ لمبادئ الثورة بشكل مباشر مثل فيلم  «بورسعيد» لعز الدين ذو الفقار بطولة فريد شوقي والذي تم إنتاجه بتوجيه مباشر من الزعيم الراحل عبد الناصر. 

وبعد أعوام قليلة على الثورة كان التغيير قد شمل كل نواحي الحياة تقريبا وحدثت طفرة هائلة في صناعة الإبداع والفنون، كان للسينما فيها نصيب كبير جدا، ففي الستينات العصر الذهبي للسينما قدمت أفلام رائعة عن الثورة بدأت بفيلم « بداية ونهاية « لصلاح أبوسيف قصه نجيب محفوظ، عام 1960، بطولة عمر الشريف وفريد شوقي وسناء جميل و «في بيتنا رجل» في نفس العام لبركات بطولة عمر الشريف ورشدى أباظة وزبيدة ثروت مرورا بفيلمي صلاح أبو سيف «القاهرة 30» قصه نجيب محفوظ، بطولة سعاد حسني، أحمد مظهر، عبدالمنعم إبراهيم وتوفيق الدقن وحمدي أحمد و «لا تطفئ الشمس» بطولة نادية لطفى وفاتن حمامة وأحمد رمزي وعماد حمدي وشكري سرحان، و فيلم «ثمن الحرية» لنور الدمرداش بطولة محمود مرسى وعبد الله عيث وكريمة مختار، واختتم فترة الستينات الذهبية أفضل الأفلام عن الثورة  وأعمقها  «غروب وشروق» لكمال الشيخ بطولة سعاد حسنى ورشدي أباظة وصلاح ذو الفقار ومحمود المليجى سيناريو وحوار الرائع رأفت الميهى والذي تدور أحداثه بعد حريق يناير ويوثق بشكل رمزي لانهيار النظام الملكي بفساده.  


نهضة سينمائية
حقيقة لم تضف السينما للثورة شيئا مهما أو قيمة، بل لم يكن هناك فيلما يرقى لما أنجزته الثورة وقدمته للمجتمع المصري، لكن كانت العلاقة العكسية تختلف تماما فأضافت الثورة للسينما الكثير وأثرت فيها بشكل إيجابي وقدمت دعما هائلا لصناعة السينما المصرية، وأسست مؤسسة السينما التي أنتجت عددا كبيرا من أهم وأضخم الأفلام الباقية في تاريخ السينما المصرية، وأنشأت أكاديمية الفنون التي تضم معهد السينما والفنون المسرحية والباليه وغيرها، وأقامت قصور الثقافة وشملت السينما نهضة حقيقية نفتقدها اليوم .