لسنوات طويلة تربع الأستاذ محمد حسنين هيكل على عرش الصحافة والسياسة، ليس فقط فى مصر، بل على مستوى العالمين العربي والغربي.
وقد تميز هيكل برؤيته العميقة للواقع السياسى فى العالم، وقراءاته المختلفة للتاريخ، ومن هنا كان تميزه وقدرته على استباق الأحداث، ورغم محاولات نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك تهميش هيكل وإبعاده عن الكتابة طوال سنوات، إلا ان «الأستاذ» لم يفقد بريقه، وواصل اهتمامه بالشأن العام، فكانت ثورة 25 يناير بداية لمرحلة جديدة فى حياة الأستاذ هيكل، حتى وإن جاءت بعد «استئذانه فى الانصراف».
ثورة 25 يناير
كان اندلاع ثورة 25 يناير 2011 مفاجأة لكثير من المحللين والمفكرين وحتى للأجهزة والمؤسسات المعنية بالتحليل ورصد التطورات السياسية فى العالم، لكن من يقرأ كتابات «الأستاذ» ويستمع بعمق لتحليلاته فى سنوات ما قبل الثورة يدرك أن هيكل بعميق رؤيته وتحليله كان يرى «شيئا يلوح فى أفق مصر» ، وقد عبر عن ذلك فى سلسلة لقاءاته التلفزيونية التى سبقت الثورة، وتوقع فيها استحالة أن يمر مشروع «التوريث» فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك بسهولة، كتلك التى تم بها فى سوريا مطلع العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، وكان هيكل صاحب الوصف الشهير لنظام مبارك والذى جاء مبكرا، وربما فى أوج قوة النظام عندما قال بأن «السلطة شاخت فى مواقعها، وهناك مخطط واضح لتوريث الحكم، ومهما كانت الصورة حلوة، فلابد أن نقول كفاية».
كان هيكل يرصد عن قرب ذلك الاحتقان الذى يموج به المجتمع المصرى، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وحذر فى أكثر من مناسبة من انفجار هذا الاحتقان، ودعا إلى إصلاح عاجل فى مؤسسات السلطة والدولة، وإجراء تغييرات عميقة فى النخبة الحاكمة وأساليبها فى إدارة شئون البلاد، لكن ما طالب به «الأستاذ» ضاع فى دهاليز التجاهل، وضاعت فرصة لإصلاح الأوضاع، فكان الانفجار الكبير فى 25 يناير.
ثورة شعبية
ومنذ الأيام الأولى للثورة، تحول هيكل إلى قبلة لكل من يريد أن يفهم إلى أين تسير الأمور فى مصر، فحالة الغموض والارتباك التى سادت البلاد فى ذلك الوقت، جعلت النخب والناس تبحث عن من يشرح لهم ما يجرى على أرض النيل، وبالفعل لم يبخل هيكل فى تلك الفترة برأى مخلص أو نصيحة أمينة، ومنذ اللحظات الأولى لانفجار الثورة، كان هيكل واضحا فى تقييمه فرأى أن 25 يناير ثورة شعبية أذهلت العالم فى الأيام الأولى لها، وأشاد بالموقف الوطنى للجيش خلال الثورة ، والذى أكد وقوفه إلى جوار الشعب ،فأثبت أنه جيش الوطنية المصرية وليس جيش النظام.
ورفض هيكل فى أكثر من مناسبة وصف ثورة يناير بأنها مؤامرة، بل وتعرض فى كثير من الأحيان للهجوم بسبب موقفه هذا، كما التقى هيكل فى تلك الفترة بالعديد من قادة وزعماء العالم الذين لجئوا إليه ليفهموا إلى أين تمضى الأحداث فى مصر.
وفى تلك الفترة أجبرت الأحداث «الأستاذ» على العودة مجددا إلى الكتابة بعد استئذانه فى الانصراف، فأصدر أربعة كتب حملت عنوان «مصر إلى أين .. ما بعد مبارك وزمانه» تناول فيها هيكل تحليله لعصر مبارك، وكيف مضت الأحداث حتى وصلت به من ذروة السلطة إلى زنزانة السجن.
نبوءة سقوط الإخوان
وفى الفترة التى أعقبت الإطاحة بالرئيس الأسبق حسنى مبارك، شارك هيكل برأيه ورؤيته المتعمقة فى تحليل الواقع المرتبك، وتوجيه نصائح يراها مفيدة للخروج بالبلاد إلى بر الأمان، وعندما جاء «الإخوان» إلى السلطة، حاول هيكل تجاوز ذلك العداء التاريخى الذى يكنه أبناء الجماعة المحظورة له بحكم قربه من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فالرجل يدرك بحكمته أن مصلحة البلاد أكبر من أية خصومات، وأن ما تشهده مصر فى مرحلة ما بعد يناير 2011 يمثل صفحة جديدة للجميع.
وفى تلك الفترة حاول هيكل أن ينصح «الإخوان» بأن يخرجوا من عباءة الجماعة، ليرتدوا ثوب الدولة، وألا تنحصر رؤيتهم للبلاد برؤية «التنظيم السري»، لكنه أدرك سريعا أن الإخوان أبعد ما يكونون عن إدراك أهمية هذا التحول، فتوقع أنهم لن ينجحوا فى حكم مصر، لأنهم يسيرون عكس مجرى التاريخ.
تصحيح مسار الثورة
وجاءت ثورة 30 يونيو 2013 تصديقا لرؤية «الأستاذ» فى أن الشعب المصرى لن يصمت على حكم «المرشد» وتلك الرغبة المحمومة فى تغيير مقوماته وصبغه بلون واحد لا يراعى عمق وتنوع الشعب المصرى، ومنذ اللحظة الأولى أيضا جاء تأييد هيكل لثورة «30 يونيو» ، والتى رأى فيها تصحيحا لمسار ثورة 25 يناير، واستعادة لما حققه الشعب فى تلك الثورة الشعبية الكبيرة ، ورأى أنه لا يوجد خلاف بين الثورتين، فلا يوجد صراع على الماضى بل الصراع على المستقبل ومكاسبه، وأشار إلى أن الثورة رفض لما هو قائم والرغبة فى إحلال الجديد وهذا ينطبق على ثورتى 25 يناير و 30 يونيو.
واعتبر هيكل موقف القوات المسلحة فى مائدة المطالب الشعبية بالاطاحة بحكم الإخوان، استجابة جديدة من الجيش لمطلب الشعب، وهو ما يؤكد عمق إدراك المؤسسة العسكرية لدورها فى المجتمع، وأن حماية منظومة الأمن القومى لا تقتصر فقط على الحدود، وإنما تبدأ من الداخل، وحماية تماسك المجتمع، واعتبر هيكل موقف الجيش درعا واقيا للمجتمع من الوقوع فى مصير مظلم واجهته العديد من دول ما بات يعرف بـ»الربيع العربي».
وواصل «الأستاذ» عطاءه الفكرى فى مرحلة ما بعد 30 يونيو 2013 ، من خلال الاطلال عبر سلسلة من الحلقات التلفزيونية التى كانت بمثاية منبر جديد له لتقديم رؤيته العميقة للأحداث، التى لا تقتصر فقط على الوضع فى مصر، وإنما كان يحلق من خلالها ويطوف آفاق العالم، ليقدم تحليلا سياسيا اجتماعيا تاريخيا، لا يقوى عليه سوى رجل بقيمة وقامة «الأستاذ» محمد حسنين هيكل.