وثائقيات "الجونة السينمائي" .. الإنسانية مرت من هنا !

مصطفى حمدي

الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017 - 02:43 م

بشعار " سينما من أجل الإنسانية " يقدم مهرجان الجونة السينمائي دورته الأولى للجمهور والمهتمين بالشأن السينمائي ، ويربط بين الفن والواقع العالمي الذي يفتقد بشدة لنظرة تأمل حقيقية نحو الإنسان ومعاناته .
 في شرق أوسط يدهس الإنسانية تحت وطأة السياسة ،يتلاشى الإنسان من المشهد ، وتصبح السينما هي الملاذ الوحيد للتعبير عن تلك المعاناة ، أو التفتيش تحت جلدة ، ليست هذه المساحة فرصة للتحليل السياسي للأفلام المعروضة على شاشات مهرجان الجونة بقدر ماهي رصد لـمدى تحقق فكرة "سينما من أجل الإنسانية " في اختيارات الأفلام المشاركة ، بل يبدو ذلك واضحًا وبقوة في اختيارات الأفلام الوثائقية سواء في مسابقتها الرسمية أو البرنامج الخاص،  الإنسانية تمر متى تشاء وتترك بصمتها حتى لو أمام رئيس دولة تساهم في تحريك بوصلة العالم كيفما أرادت ، في فيلم فيلم "محاورات بوتين" للمخرج أوليفر ستون يمكنك أن تعرف أشياء أكثر من السياسة عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، هي رحلة للإبحار في عقل وحياة رجل أعاد تشكيل مصير بلاده في لحظة فارقة . الفيلم الوثائقي الذي تم تصويره في الفترة مابين 2013 وحتى 2017 عرض لأول مرة في يونيو الماضي على شاشاة "شوتايم " ونال اهتمامًا إعلاميًا كبيرًا ، وقتها قال ستون في حديث لصحيفة نيويورك تايمز أن أهم انطباع خرج به من لقاءات مع بوتين أنه لم ير رئيسًا أمريكيًا يعمل مثله ، هو إعجاب حقيقي امتد لأغلب مشاهدي الفيلم خاصة وأن تَنَقُل ستون كمحاور ومخرج بين الحياة العملية والخاصة لبوتين تم بنعومة لم تفصل بين صورة الرجل في الحالتين .
 أوليفر ستون الحائز على جائزة الأوسكار ثلاث مرات " اثنتين للإخراج وواحدة للسيناريو " معروف بمواقفه المناهضة للسياسات الأمريكية ، ربما كان هذا مفسرًا لقبول بوتين إجراء هذه المحاورات ، بل إن صورة الرئيس الروسي زادت قوة أمام نظرائة الأمريكان على مدار السلسلة المكونة من أربع حلقات ، يبدو بوتين رئيسًا قادمًا من بيئة استخباراتيه أضفت طابعا إنضباطيا على سلوكه العام ، حتى ردوده اتسمت بقدر مدهش من الذكاء والدبلوماسية المتزنة ولكنها لم تخل من روح الدعابة التي تضع "السخرية" في محلها بميزان من ذهب .
 نجح اوليفر ستون في الغوص داخل نفس بويتن بقدر منح المشاهد اجابات مثيرة على تساؤلات تحيط بالقيصر الروسي الجديد ، هو نفسه لم ينف او يؤكد محبته لهذا اللقب عندما سأله ستون عن موقفه من هذا ، هز رأسه وقال : هذه دعابات الإعلام والشارع الذي يحب هذه التوصيفات ، هذه رؤيتهم وهم أحرار ! الأكيد أنك ستخرج من "محاورات بوتين" معجبًا بالرئيس الروسي بل وملمًا بتفاصيل عديدة عن حياته الإنسانية ورؤيته للحياة والمجتمع والأسرة ، لماذا يحب الجودو ؟ وما موقفه من المثليين جنسيًا ؟ كيف يتعامل مع بناته وأسرته ؟ ولكن الملفت هو عدم ظهور زوجته وبناته على الإطلاق باستثناء صورة قديمة لابنتيه في مرحلة الطفولة مع والدتهما .
 بعيدًا عن بوتين ، وبالانتقال الى الضفة الأخرى من العالم وتحديدا في مخيم "برج البراجنة" في لبنان لدينا قصة نجاح ملهمة في فيلم "سفرة" للمخرج توماس مورجان ، بطلة الفيلم هي اللاجئة مريم الشعار التي قضت طفولته وصباها في ظروف حياتية صعبة مثلها مثل 50 ألف لاجيء يسكنون المخيم منذ 65 عامًا ، لا فرصة امام مريم ورفيقاتها للعمل خارج حدود المخيم ، القوانين في لبنان تواجه اللاجئين بصرامة ، وهي نفس الفكرة التي لامسها المخرج زياد دويري في فيلمه "الإهانة" وغن اختلفت رؤية دويري للاجيء الفلسطيني تمامًا عن الرؤية التي طرحها فيلم سفرة . تفتح مريم مطبخًا للمأكولات ، وتنال دعمًا من إحدى المؤسسات المهتمة بهذه النماذج ، ينجح مشروع مريم ويكبر بل ويفتح باب الأمل أمام نساء من المخيم ، ولكن الفيلم بشكل عام يتناول رحلة صعود سريعة لم تتجاوز العام ونصف ، بينما أغفل الرصد المكثف لمعاناة السيدات اللاتي شاركن مريم مشروعها ، هذه التفاصيل الكامنة في قصص السيدات كانت من الممكن ان تمنح الفيلم بعدًا إنسانيًا أكبر بدلا من مشاهد الماكولات واطباق الزعتر والحلوى والكبيبة التي غزت الشاشة مع النصف الثاني من الفيلم ، تستمر الرحلة حتى تبحث مريم عن تصريح لإقامة عربة مإكولات متجولة تحمل إسم سفرة ، ولا أعرف في الحقيقة سبب إصرار مريم على الفوز بهذه السيارة في الوقت الذي أسست فيه علامة تجارية شهيرة هي "سفرة" غزت بها المدارس والمؤسسات اللبنانية وأصبحت "ماركة مسجلة " في الحفلات العامة والخاصة !
فيلم آخر يبدو عنوانة معبرًا حقيقيًا عن فكرة الإنسانية وهو "لست عبدا لك " للمخرج راوول بيك ، الفيلم يتناول تاريخ نضال السود ضد التمييز العرقي معتمدا على محاضرات الكاتب جيمس بولدوين والتي تعبر عن تجربته كرجل أمريكي أسود ، فيلم كهذا يحتاج تناول حذر حتى لا يجنح إلى الخطابة السياسية ، ولكن المخرج ظل متمسكًا بالبعد الإنساني في الرحلة ليكون خطًا رئيسيًا لفكرة فيلمه.
الفيلم الرابع في قائمة مشاهداتي الوثائقية بالجونة حتى الأن هو " 78/52 " للمخرج الكسندر أو . فيليب . أول دواعي الدهشة أمام الفيلم هو فكرته ، كيف تقدم فيلمًا وثائقيًا كاملًا عن مشهد سينمائي؟ ولكنه ليس اي مشهد بل مشهد القتل في الحمام بفيلم "سايكو" للمخرج الشهير هيتشكوك ، سبب أهمية المشهد تتلخص في كونة نقطة تحول في تناول السينما لمشاهد القتل والعرب بشكل عام ، عبقرية هيتشكوك في التقاط التفاصيل ليرسم مشهدًا تحول غلى طفرة حقيقية في الصناعة على كافة مستوياتها ، بل وقام مخرجون فيما بعد باستنساخ تتابعات المشهد المرسومة في مشاهدهم ، يلتقط الفيلم الوثائقي تفاصيل بناء هذا المشهد بداية من اختيار الدوبلير التي ظهرت عارية بدلا من بطلة الفيلم جانيت لي ، حكت هذه السيدة العجوز تفاصيل ظهورها في بعض اللقطات بدلا من البطلة الرئيسية بينما تناول النقاد وصناع السينما المشهد بتحليل دقيق بداية من كتابة السيناريو وصولا لفلسفة بناء كل كادر ووصولا للموسيقى التصويرية ، ساعة ونصف من المتعة أمام فكرة لم تخل من بعد إنساني طوال العمل متلخصًا في اجابات عدة حول سؤال مهم : ما الذي دار في نفس هيتشكوك ليملك هذا القدر من الدموية بل والقدرة على التناول الجنسي لمشهد قتل قد يراه المشاهد غير المتخصص مجرد لحظات من العرب ؟
 الحقيقة أن شعار "سينما من أجل الإنسانية" يتحقق بوضوح في أغلب اختيارات أفلام الجونة السينمائي ، ولا شك أن تحقيق ذلك يعد أمرًا غاية في الصعوبة بالقياس على انتقاء 80 فيلمًا في مختلف مسابقات المهرجان ، ولكن هذه متعة السينما التي تبدو شاشتها كمرآة كبيرة للحياة ، تنظر إليها وتختار ما تريده من تفاصيل أقرب إلى روحك .


الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة