الكاتب الصحفى عادل حمودة
الكاتب الصحفى عادل حمودة


عادل حمودة يكتب ..شهادات موثقة.. المخابرات والسياسة الخارجية !

عادل حمودة

الجمعة، 27 أكتوبر 2017 - 08:46 م

مدير وكالة المخابرات المركزية جورج تنيت:
نحن نختصر الوقت بما نملك من معلومات سرية بعيداً عن الثرثرة الدبلوماسية
أبوالغيط: سـكرتارية مبـــارك كانت تتصـــل بالســـفراء الأجــانب دون إبــلاغ
وزارة الخارجيـــة وكثيـــراً ما دعيت للقـــاءات مع رؤســـاء لا أعرف عنهـا مسبقاً
عمر سليمان كان يتصل بوزراء الخارجية الأجانب ..  وزكريا عزمي يرتب الرحلات الخارجية
مصر أول دولة تعين وزيراً للخارجية سبق أن تولي جهاز المخابرات هو كمال حسـن علي الذي أصبــح رئيساً للحكومة
خالد فوزي ورجاله نجحوا في تحقيق المصالحة الفلسطينية بعد أن رتبوا
لـهــا فـي هـدوء وصمت ليقضـــوا عـلــــي انقســـــــام اســــــــتمر عشـــــــر ســـــــنوات


سبقت أصوات الطبول والهتافات أسماعنا قبل أن نصل إلي مقر الحكومة الفلسطينية في غزة.. وبصعوبة بالغة نجحنا في أختراق الحشود التي تجمعت لتعبر عن فرحتها بقدوم مدير المخابرات المصرية الوزير خالد فوزي بعد نجاحه ــ هوورجاله ــ في تحقيق المصالحة الصعبة بين فتح وحماس.. منهيا حالة الإنقسام المزمن بين الطرفين .. مجسدا حلما بدا مستحيلا.. الشمل الفلسطيني من جديد.
وقفت في شرفة مكتب رئيس الحكومة الدكتور رامي الحمد الله أتابع المشهد الذي جري تجهيزه بحنكة وخبرة وبراعة وهدوء وصبر وطول نفس قبل شهور في القاهرة حتي كتب له النجاح .
ووسط ترحيب العالم بما حدث بدأ التفتيش ــ في صحف دولية ومراكز استراتيجية ــ عن علاقة المخابرات بصناعة السياسة الخارجية وفرض ذلك علي الباحثين المحايدين العودة إلي الوراء نحو عشرين سنة.
في سبتمبر 1998 ــ وخلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة ــ نجحت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في تدبير أول لقاء مباشر بين ياسر عرفات وبنيامين نتانياهوبعد منتصف الليل داخل شقتها القديمة في والدورفيا (نيويورك) ورغم أن كلا منهما أعطي ظهره للآخر في البداية إلا أنهما سرعان ما وافقا في النهاية علي عقد قمة مشتركة في منتجع كامب ديفيد برعاية الرئيس بيل كلينتون علي أن تسبقها رحلة إلي الشرق الأوسط تقوم بها الوزيرة .
 خلال تلك الرحلة اجتمعت أولبرايت معهما في موقع عسكري إسرائيلي قريب من معبر أرينز علي أطراف غزة .. وبعد ساعتين من المحادثات اقترح نتانياهوأن يطلبوا شطائر خفيفة .. لكن عرفات كان قد خطط لدعوتها علي الغداء في منزله ودون تردد عرض علي نتانياهومشاركتهما الطعام ودون تردد أيضا قال نتانياهو: «بالتأكيد»‬.
 وبعد وجبة من سمك »‬دنيس» استأذن نتانياهوفي إشعال سيجارة فسارع عرفات بتقديم صندوق كامل من سيجار »‬كوهيبا» الكوبي إليه.. ولم تتردد أولبرايت في مشاركتهما التدخين مقترحة نخبا يسعدهما .. وتماسكت يدها مع يديهما أمام عدسات التصوير .. لتتصدر الصورة الصفحات الأولي في الجرائد العالمية.

 لكن .. يبدوأن ذلك المشهد كان النجاح الوحيد الذي حققته الدبلوماسية الأمريكية في القضية الفلسطينية ــ الإسرائيلية.

 لقد شغلت تلك القضية أكثر من خمسين صفحة في مذكرات أولبرايت »‬السيدة الوزيرة».. ولكنها في النهاية تعترف بفشلها في حلها .

 أما السبب فكان مفاجأة غير متوقعة .. أن طرفي القضية لم يثقا إلا في مدير وكالة المخابرات المركزية ( الأمريكية ) وقتها جورج تنيت .. وقد »‬ تهيبت الوكالة من لعب دور الحكم في ذلك الصراع المميت في واحدة من أقسي مناطق العالم ولكن لم تكن هناك مؤسسة لها قدرة مشابهة علي العمل مع كلا الطرفين »‬ علي حد ما ذكرت أولبرايت .

 وبظهور تنيت علي السطح وبإعلانه عن التفاهمات التي نسبت إليه لحل القضية لم يعد من السهل إخفاء دور مديري المخابرات في صناعة السياسة الخارجية .

 وفي كثير من الأحيان تجاوز هذا الدور ما يساهم به وزراء الخارجية أنفسهم .

 وتقدم مذكرات تنيت المنشورة تحت عنوان »‬في قلب العاصفة» ما يبرر ذلك قائلا: »‬إن ما لدي أجهزة المخابرات من معلومات سرية يجعل من السهل عليها اختصار الوقت الذي تهدره الدبلوماسية المعلنة في الثرثرة».. »‬ كما أن تلك الأجهزة قادرة علي ترطيب الأزمات باتصالات غير معلنة دون لفت الأنظار وحتي تصل إلي حلول مناسبة لها».. بجانب »‬سهولة التفاهم المباشر مع الرؤساء في تحديد الأولويات والأهداف بصراحة وحنكة وثقة يحكمها الكتمان وعدم البوح عما يعرف».

والأهم .. »‬ما تتمتع به أجهزة المخابرات من إمكانيات هائلة لا تتوافر عادة لمؤسسات أخري» .. كما »‬ أنها بحكم القانون تقدر علي العمل في حرية بعيدة عن فضول الصحفيين الذين ترضيهم عندما تخصهم بأخبار نجاحاتها في الوقت الذي تحدده بنفسها».

وربما كانت مصر الدولة الأولي التي عين فيها وزيرا للخارجية كان من قبل مديرا للمخابرات العامة هو كمال حسن علي الذي شغل أيضا منصبي وزير الدفاع ورئيس الحكومة وكان اختياره مناسبا في وقت كان الرئيس أنور السادات يتفاوض فيه مع إسرائيل بعد توقيع أتفاقية كامب ديفيد .
وقد توقعنا أن يكرر الرئيس حسني مبارك التجربة نفسها ويعين عمر سليمان وزيرا للخارجية بعد اختيار عمروموسي أمينا للجامعة العربية ولكن المنصب كان من نصيب أحمد ماهر وإن بدا في كثير من المواقف الخارجية أقل تأثيرا من عمر سليمان .
لم يكن توقعنا نوعا من الوهم .. فقد بدا عمر سليمان أكثر انفتاحا علي رؤساء التحرير ونحن نغطي رحلة مبارك إلي واشنطن عام 2001 ( ليلتقي لأول مرة بالرئيس الأمريكي الجديد جورج بوش ) وكان يجيب علي اسئلتنا باستفاضة لم نعهدها في وزير خارجية من قبل ورغم وجود عمروموسي الموهوب في اجتذاب الضوء والكاميرات .
 ولم تمر فترة طويلة حتي كان من السهل علينا اكتشاف أن عمر سليمان قد تجاوز وزير الخارجية في معالجة القضايا الإقليمية والدولية وامتدت مسئوليته إلي كثير من الملفات الحيوية: العلاقات المصرية الأمريكية والعلاقات المصرية الإسرائيلية والسودان وليبيا ومياه النيل وأمن الخليج أحيانا ولم يبق لوزير الخارجية علي ما يبدوسوي ملف تصدير الملابس إلي الولايات المتحدة.
 والسياسة الخارجية يحددها الرئيس (إستراتيجيا) ويختار لتنفيذها من يشاء ولوكان سكرتيره للمعلومات كما فعل مبارك وهوما أثار دهشة أحمد أبوالغيط وهووزير للخارجية فقد كان كثيرا من السفراء في الخارج يتصلون مباشرة بالرئاسة دون علمه .
والأخطر أن هذه الاتصالات شملت السفراء الأجانب في القاهرة دون إطلاع الخارجية عليها رغم أن الخارجية قد تملك من المعلومات ما يكمل الصورة للرئيس حسب أبوالغيط نفسه .
وفي كثير من الأحيان لا يعرف وزير الخارجية بترتيبات رحلات الرئيس إلي الخارج أوباستقبال رؤساء في القاهرة إلا بعد الانتهاء من تلك الترتيبات التي كان يقوم بها رئيس الديوان ( زكريا عزمي ) الذي تزايد دوره في السنوات الأخيرة من حكم مبارك .
فكثيرا ما طلب من وزير الخارجية الحضور علي عجل للرئاسة ليفاجأ بوجود رئيس أجنبي لم يكن يعرف بقدومه من قبل وبالقطع فإنه يحضر اللقاء صامتا متفرجا فهولم يستعد له ولم يخطره أحد بجدول أعماله .
وفي السنوات الأخيرة كان مبارك يكتفي بتلقي تقارير وزير الخارجية عن مهام قام بها تليفونيا .    
وباعتراف أبوالغيط أيضا: لعب أسامة الباز دورا بالغ التأثير في السياسة الخارجية يتجاوز حدود منصبه الرسمي وكيلا في وزارة الخارجية »‬ وحرص الباز علي نجاح عمروموسي الذي اختاره وزيرا للخارجية فقد صمت الباز في كثير من الإجتماعات المهمة ــ علي غير عادته ــ ليعطي موسي الفرصة لكي يظهر إمكانياته »‬ ــ صفحة 37 من مذكراته .
 وفي المذكرات نفسها: »‬إن دور رئيس المخابرات تنامي منذ عام 1992 حتي أصبح ذا تأثير كبير وتزايد بعد نجاة مبارك ــ بفضل السيارة المصفحة التي أرسها عمر سليمان ــ من محاولة اغتياله في أديس أبابا في يونيو1995».. »‬كما كنت قد رصدت شخصيا تعاظم هذا الدور في إبريل 2001 عند مصاحبته للرئيس في زيارة واشنطن وحضوره مبكرا عن موعد وصول الرئيس وقيامه بالاتصالات مع الأجهزة الأمريكية بما فيها وزير الخارجية كولن باول رغم وجود عمروموسي في الوفد» ــ صفحة 42 من المذكرات .
وأصبح عمر سليمان يلتقي وزراء الخارجية وكبار المسئولين الزائرين للقاهرة بشكل مستمر منذ بداية مسئولية أحمد ماهر في مايو2001 وأصبحت وجهة نظره نافذة في السياسة الخارجية خاصة في المسألة الفلسطينية حيث أدي خوض المخابرات المركزية الأمريكية ــ وتكليفها بتنظيم العلاقات الأمنية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل فور نشوب الانتفاضة الثانية ــ إلي دور كبير مساعد للمخابرات المصرية وتنامت العلاقة بين سليمان وتنيت وكل من خلفوه وأدي ذلك إلي تعزيز إضافي لوضعية سليمان شخصيا مع وزراء الخارجية الأمريكيين مباشرة ــ صفحة 44 .
ولم يكن من الصعب علي أبوالغيط ملاحظة أن سليمان لديه نفوذ كبير في كل أجهزة الدولة التي لها اتصال من قريب أوبعيد بعمليات السياسة الخارجية وهي أجهزة حكومية كثيرة منها الداخلية والدفاع ــ صفحة 123.
وببراعة أدرك أبوالغيط أن صراع الخارجية والمخابرات لن يكون في صالحه فكان أن توافق وتعاون مع سليمان بما يحقق المصلحة العليا للبلاد .
وحدث في شتاء عام 2004 أن دعا سليمان رؤساء تحرير الصحف القومية والحزبية والمستقلة إلي لقاء مع كافة الفصائل الفلسطينية التي جمعها في فندق سوفتيل (مدينة 6 أكتوبر) وسمح بمناقشة حرة بيننا وبينهم في مشهد جديد علينا يتصدر فيه مدير المخابرات علنا مسرحا سياسيا دون حضور وزير الخارجية.
 وللدور السياسي الذي لعبه سليمان لم يعد محرما نشر اسم أوصورة مدير المخابرات.
 وقد عرفت سليمان عن قرب .. وتدخل بحكمة وثبات في علاج الأزمات التي تسببها الصحافة بما تنشر عن الحكام العرب .. خاصة الرئيس الليبي معمر القذافي .. فقد قال لي أكثر من مرة: »‬إننا نحاول السيطرة علي تصرفاته الجانحة حماية لمصالحنا في بلاده وربما أقنعناه بمزيد من الاستثمارات في مصر».
ويسجل أبوالغيط : أن اول رحلة له وهووزير للخارجية كانت إلي ليبيا وهناك لاحظ الترحيب الهائل به لوجوده مع عمر سليمان.. وعندما أبدي أبوالغيط تعجبه من تصرفات القذافي سمع من سليمان ومبارك الجملة نفسها: »‬هوأنت شفت حاجة».
وامتد تأثير سليمان إلي الخرطوم وواشنطن وأديس أبابا ورحبت به العواصم الخليجية بعد أن تخلصت من عقدة تدخل مخابرات عبد الناصر في شئونها الداخلية.
ولعل سبب التفاهم المثالي بين سليمان وأبوالغيط أن أبوالغيط سعي بنفسه منذ أن بدأ خدمته الدبلوماسية في قبرص إلي التعرف علي عمل الخدمة السرية بالتقرب إلي المسئولين عنها في سفارة مصر في نيقوسيا.
وللثقة المتبادلة بين الرجلين اتفقا ــ أثناء رحلة طيران ــ علي رفض توريث جمال مبارك الحكم وكانا علي ثقة بأن الجيش لن يقبل بهذا الوضع وساعتها قال سليمان: »‬إن التفكير في عامي 2003 و2004 كان في تغيير أحمد ماهر بوزير خارجية أصغر كثيرا في السن لكي يستطيع التفاهم مع جمال مبارك وأوحي سليمان أن الاسم المطروح وقتها سفيرنا في واشنطن إلا أن رؤية مبارك سادت واختير أبوالغيط لسبب مختلف تماما هوتقدم سنه وخبرته.
في ذلك الوقت كان سفيرنا في واشنطن هونبيل فهمي وكان عمره وقتها 53 سنة وقد اصبح فهمي وزيرا للخارجية بعد ثورة يونيوبالتحديد في 16 يوليو2013 لكنه لم يكمل العام في منصبه فقد تركه في 8 يونيوالتالي.
رافقته في رحلته الأخيرة إلي واشنطن بدعوة من وزير الخارجية الأمريكية جون كيري وتصادف وجود مدير المخابرات اللواء محمد التهامي هناك لكنهما لم يلتقيا هناك وعندما سألت فهمي في حوار تلفزيوني سجلته معه ــ عن التنسيق بينهما أجاب: »‬أنا المسئول عن السياسة الخارجية »‬ وفي أول تشكيل وزاري خرج فهمي من الحكومة.
وتؤمن قيادات المخابرات في مصر بقيمة من سبقوها من معلمين كبار تعلموا منهم وواصلوا مشوارهم الصعب والخطر الذي آمنوا فيه بفضيلة إنكار الذات عادة.. إن جينات المهنة متوارثة بالأختيار والتدريب.. ستجد كثيرا من صفات زكريا محيي الدين في عمر سليمان.. وستجد كثيرا من صفات عمر سليمان في خالد فوزي.. لذلك لم تفقد تلك المؤسسة الوطنية خصائصها وتماسكها في وقت تصدعت فيه مؤسسات أخري.



 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة