"جسم غريب" في  وطننا العربي
"جسم غريب" في وطننا العربي


"جسم غريب" في وطننا العربي

منال بركات

الأحد، 03 ديسمبر 2017 - 12:12 م

ماذا يترك العنف في النفس الإنسانية سوى الألم والمرارة والغضب حتى بين الأهل وأصحاب الدم الواحد . عندما يدرك المرء إنه لا فائدة أمام طوفان العنف وقتل الحريات ونزعة السيطرة وفرض الرأي بالقسوة والقوة، فلا يجد أمامه مفرا إلا الهروب من وجه هذا الوحش الطليق، حتى وإن كان بطريقة غير شرعية تهدد بقائه. 
الاستمرار في تلك الحياة تساوى قتل للروح، والمخاطرة بالهروب ربما تصيبه بالنجاة. 
الفيلم التونسي "جسم غريب" أو " Foreign Body " لخص مأساة سامية "سارة حناشى"الفتاة الشابة التي لاذت بالفرار من بلدتها الصغيرة، تاركة خلفها الأمن والأمان بين أحضان أمها بعد ثورة الياسمين بتونس من أجل العيش بسلام وآدميه.
 هذا هو السر الذي حملته "سامية" الفتاة التونسية التي فرت من بلدها عبر قارب مطاطي، غرق من عليه وتناثرت أوراقهم القليلة وذكرياتهم في قاع البحر وعبر الأمواج. 
وفى مشهد رمادي يعكس الحيرة والضياع والقلق من المجهول، تتأمل سامية للحظات الجهة المقابلة للشط الفرنسى حيث يقع وطنها تونس وكأنها تودع ذكرياتها وبرأتها ، لتدرك أنه لا سبيل للعيش إلا الخوض فى تلك المغامرة فى بلد غريب بلا أوراق رسمية أو أصدقاء لتتكئ إليهم عند الحاجة . 
وبخطى مرتعبة تطلق سامية ساقيها للريح بحثا عن "عماد" " سليم كشيوش "، صديق شقيقها الذي يصدم لرؤيتها ولكنه يمد لها يد العون، لم تمكث سامية لدى أبناء وطنها سوى ليلة واحدة،  وخرجت للبحث عن عمل وكأن لسان حالها يقول لن استسلم للماضى الأليم الذى ندرك أوجاعه من نظرات سامية وعماد وكأن بينهما سرا دفينا لا نعلمه، 
يلعب الحظ دوره عندما تلتقط سامية إعلانا عن عمل لدى مدام"بيرتيو" "هيام عباس" الأرملة الثرية، وتتمكن سامية من إقناع السيدة بالعمل لديها، لتتبدل حياتها وتشعر بالدفء والأمان. وتتلقف سامية سماعة الهاتف لتطمئن على والدتها وتعدها بإرسال نقود تساعدها على المعيشة، عبر صوت الأم نتعرف على مأساة سامية الحقيقية وسر هروبها من وطنها، شقيقها المتطرف دينيا هذا هو السر الدفين  الذى من أجله هربت سامية تاركه خلفها كل شيء،.
 يتجدد القلق مرة آخرى فى حياة الصغيرة بعدما تخبرها الأم عن اختفاء شقيقها، وهناك من يردد انه سافر إلى فرنسا أو بلجيكا و آخرون يؤكدوا على وجوده داخل السجن. 
من جديد يدب الرعب في حياة سامية ولكنها لا تستسلم و تتطلع للعيش بكرامة مثلما تعيش الأرملة الثرية  مدام بيرتيو ، و تسقط الحواجز بين السيدتين لنتعرف على أن بيرتيو أو "ليلي" من أصل عربي، لم تحظ بالسلام والثراء إلا بعد زواجها من فرنسى.
ويسعى عماد للكشف عن سر استقرار سامية فى بلاد الغربة، ويلتقي بالسيدة  ليلي، ويتودد إليها تحت مظهر الرجل المتحضر. لأن الطبع يغلب التطبع سرعان ما تسقط الأقنعة،  وفي مشهد حسى بديع ترقص سامية على أنغام وطنها ويشاركها عماد الرقص و كأنها لحظه حنين للوطن، و تتجاوب ليلى أيضا معهما على الأنغام الشرقية فى رقص حسى جماعى.
 وتُصرف سامية فى الدلال لإغواء الشريكين، وسرعان ما يفضح أمر عماد الذى يدعى التحضر فيقوم بضرب ليلي، ويسقط فى الشرك الذى نصبته له سامية. ويبدو على حقيقته عنيف ضد المراة راديكالى متطرف، وترفع سامية الستار لليلي لأول مرة عن أسباب هروبها من وطنها بعد انضمام شقيقها وعماد للمتأسلمين وتعذيبها، 
مرة ثانية تستخدم المخرجة رجاء عمارى صوت الأم عبر الهاتف لتضع الحل للدراما فنعرف بموت شقيقها بالسجن وتنتهى آلام سامية بالعودة إلى وطنها وغضب شديد فى عيون سامية  من أخيها وهو في قبره . 
اختيار صانعة الفيلم عنوان "جسم غريب" اختيار جيد يوضح كيف تدمر الأوطان على يد الراديكالية والأصولية المتطرفة، 
ويعكس مشهد البداية لحظات طويلة من الألم والمعاناة التى يعيشها الفارون من أوطانهم بالطرق الغير شرعية مع انسياب موسيقي شديدة العذوبة تكثف معها لحظات الألم، وصورة رمادية تشعرك بالبرودة.
لجأت المخرجة رجاء عمارى إلى تفاصيل دقيقة لبناء فيلمها ورسم الشخصيات بدقة ناعمة ففى مشهد لقاء عماد وسامية الأول يرفض عماد شرب الخمور ولكنه لا يرفض إقامة علاقة مع ليلي، وتناول النبيذ معها في ازدواجية كاشفة، ولعبت الإضاءة دورا هاما في الفيلم خاصة في مشاهد الغرق والمشاهد الحميمية بين ليلى وعماد و سامية وكذلك مشهد النهاية وهو المشهد الوحيد الذى بزغ فيه ضوء الشمس فى حين أن معظم الفيلم رمادى في دلالة عن الغربة.   وفي النهاية يأتى عنصر التمثيل على قدر عميق من الدقة واختيار موفق من جانب المخرجة.
ورغم تكرار تقديم أفلاما عن الهجرة الغير شرعية وأسبابها غير أن فيلم "جسم غريب" قراءة دقيقة للهجرة وآلامها.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة