عادل حمودة
عادل حمودة


عادل حمودة يكتب .. حكايات ليلة كريسماس فى دير سانت كاترين !

بوابة أخبار اليوم

السبت، 23 ديسمبر 2017 - 12:26 ص

-    ثيودورا الراقصة العارية التى اصبحت إمبراطورة متدينة تأوى رجال الدين فى جناحها الخاص لحمايتهم من بطش زوجها !
-    نساء مسيحيات سبقن رابعة العدوية فى زهد الشهوات ونبذ الخطايا وتفرغن للعشق الإلهى

-    مريم تركت عمها الراهب لتحترف الدعارة لكنها عادت إلى الصواب بعد أن شمت الرائحة التى تميز الرهبان فى الزبون المتنكر الذى جاء لهدايتها !
-    لكن المعجزة الأكبر اكتشاف أقدم وأهم نسخة من الكتاب المقدس فى الدير دون أن يعرف الرهبان قيمتها الدينية !

شيد الدير عام 545 على سفح جبل موسى بجدران عالية ومتينة من صخور الجرانيت فيما يشبه القلعة خوفا من هجمات اللصوص والمتشددين دينيا وقطاع الطرق. 
وما أن فتح المسلمون مكة حتى أرسل رهبان الدير وفدا إلى النبى محمد طالبين الحماية فمنحت لهم فى رسالة بخاتمة لا تزال نسخة منها فى الدير بعد ان حصل أحد السلاطين العثمانيين على الأصل. 
وهناك من يعتقد أن رسول الله زار الدير فى رحلة الإسراء إلى القدس ويدلل على ذلك باثر خف الجمل الذى امتطاه ولايزال مطبوعا بشكل واضح على الصخور هناك.
وشيد الرهبان مسجدا فى مكان ظاهر ليكون علامة مودة مع من حولهم من مسلمين. 
 لكن أمتع ما تسمع من الرهبان وتقرأ فى خزانة وثائقهم النادرة حكايات نساء مسيحيات انتقلن من الدعارة إلى الطهارة ليسبقن فى العشق الألهى رابعة العدوية.
لنبدأ بثيودورا التى القيت تحت قدميها من أبيات شعر الغزل الفاجر من شعراء زمانها ما لم تنله إمرأة أخرى من أنوثة وسخونة ورعونة. 
واحد منهم توقف طويلا عند جسدها قائلا : « نهدان يسكنهما القمر.. عينان منجم عميق للكحل.. شفاة نبع من النبيذ.. شعر متحرر يسرح الليل فيه مترنحا.. وجسد من زجاج شفاف.. يكشف عن جنة محرمة من غابات التفاح «.
لكن رغم كل الكلمات الموحية المغرية لم ينجح على ما يبدو فى وصفها بما تستحق. 
ولدت ثيودورا قبل 1500 سنة فى سوريا العتيقة.. نزحت مع والديها الفقيرين إلى بيزنطية على شاطئ البوسفور.. عمل والدها حارسا للدببة فى مسرح صيفى.. وما أن بلغت سن العشرين حتى صعدت المسرح وراحت ترقص رقصا جنسيا رشيقا.. مثيرا.. ليتبعها فى كل ليلة عشيق سرعان ما تطرده لتستقبل عشيقا آخر أكثر نفوذا وثراء. 
على أنها تركت المسرح لتلتحق برجل منحها الكثير هو بينتا بولس الذى أصبح حاكما فى أفريقيا لكنه سرعان ما هجرها مللا منها فراحت تتسول فى الطرقات بلا نقود وبلا مأوى حتى فتح لها راهب زاهد باب التوبة وكانت قد تجاوزت سن الأربعين. 
تغطت بالحشمة والحكمة وحفظت أسرار الكتاب المقدس وهو ما مكنها من أسر قلب رجل مهم سيعرفه التاريخ فيما بعد باسم الإمبراطور جوستنيان وكانت سببا فى شهرته. 
كان جوستنيان وقتها عضوا فى مجلس الشيوخ الذى يحرم زواج النبلاء من العامة ورفضت عمته الإمبراطورة تغيير القانون وزواجه من « تلك الفاجرة « على حد وصفها. 
لكن ما إن ماتت الإمبراطورة حتى ورث جوستنيان عرشها وأزال كل ما يمنع زواجه من ثيودورا بل وتوجها إمبراطورة فى كنيسة القديسة صوفيا أرفع ما فى بلاطه من أوسمه.
وكنيسة صوفيا اصبحت جامعا فى استنبول بعد أن سقطت الإمبراطورية البيزنطية وقامت الإمبراطورية العثمانية لكنها الآن متحف يجمع بين المسيحية والإسلام. 
لم تتردد ثيودورا فى رعاية رجال الدين الذين أرشدوها إلى الصواب حتى انها وفرت الحماية لبطريرك القسطنطينة من بطش زوجها وأخفته فى جناحها الخاص وأعتقد وقتها أنه مات ولكن أمره انكشف بعد مرور اثنى عشر عاما عندما توفيت الإمبراطورة. 
على أن ثيودورا كانت تنفرد بشجاعة غير عادية مما جعلها تجبر زوجها على مقاومه المتمردين فى قصره بعد أن كان على وشك الفرار قائلة : « أهرب أيها الإمبراطور إنك غنى وسفنك مستعدة والبحر هادئ ولكنى سأبقى هنا مؤمنة بالمثل القائل : « إن اللون البنفسجى هو أفضل الأغطية للكفن « فتراجع مستردا قواه وتمكن من القضاء على العصاة وسحقهم وسجنهم. 
وفى كتابه عن الدير « اكتشاف الكتاب المقدس « يضيف الباحث اللاهوتى جيمس بنتلى : إن ثيودورا حكمت إحدى وعشرين سنة دعمت خلالها إخلاصها لرجال الدين واستقبلت فى قصرها رهبانا من كنائس مصر وسوريا وقبرص والحبشة وروسيا.
وترجمت الكتاب الذى نستند إليه مرجعا آسيا محمد الطريحى ونشرته فى القاهرة عام 1995. 
وبعد أن عانت ثيودورا من السرطان توفيت فى عام 548 ويمكن مشاهدة صورتها منقوشة بالفسيفساء على جدران كنيسة فيتالى فى روما وهى مغطاة برداء طويل بنفسجى اللون مطرز بالذهب ومرصع بالأحجار الكريمة ويتناثر اللؤلؤ على شعرها مثل نجوم السماء لكن سيرتها ستصبح أكثر جاذبية من تلك اللوحة فى « دير سانت كاترين «. 
قرر جوستنيان بناء الدير تخليدا لذكراها وتصور أن قمة الجبل مكانا مناسبا لكن صعوبة توصيل المياه إليه غيرت مكانه إلى السفح ليحمى الكنيسة المبنية فى موقع الغابة المحروقة التى كانت إحدى علامات التجلى والنبى موسى يتحدث إلى الله. 
وفى سقف بهو الدير نقشت عبارة : « فى ذكرى إمبراطورنا التقى جوستنيان وإمبراطوريتنا لترقد روحهما فى سلام «.
واهدى جوستنيان للدير 200 من مصر و200 من مقاطعة ويلز فى بريطانيا لخدمة الرهبان ومايزال أحفادهم هناك ويسمونهم « دشبيلجا « وهم ليسوا بدوا وإن تزوجوا من البدو. 
لكن الدير لا يعرف باسم ثيودورا وإنما يعرف باسم القديسة كاثرينا التى حفرت سيرتها بدمائها فى طريق الزهد منذ أن تنفست الحياة. 
ولدت كاثرينا باسم ذوروثيا وهى ابنة ملك ورثت عنه المال والجاه وورثت عن أمها الهدوء والجمال.. درست الفلسفة والطبيعة والفلك والطب بما جعلها تستنكرالوثنية السائدة من حولها.. وجاءت إليها السيدة العذراء فى أكثر من رؤيا.. فآمنت بالمسيحية.. وعمدت باسم كاثرينا. 
وما أن عرف الإمبراطور مكيسمانيوس بأمرها حتى طلب من زوجته فاوستينا استدعاء خمسين عالما وفيلسوفا لاختبارها وكشف حقيقتها وبعد أيام من المناقشة أعلنوا صدقها بل وتمردوا على عبادة الأوثان مثل سحرة فرعون الذين آمنوا برب موسى وخروا له ساجدين. 
حاول الإمبراطور إغتصابها لكنها نجت منه وهو ما ضاعف من غضبه فسجنها وجلدها وعذبها واعدمها بعجلات مسننة التروس فدعت ربها فى محنتها فتحطمت العجلات بعد أن قطعت رأسها وتصر بعض الروايات على أنها نجت وقامت على قدميها فأطاح الإمبراطور رقبتها بالسيف وتدفق الحليب من شرايننها ولم يكن عمرها يزيد عن 19 سنة. 
بعد 500 سنة على وفاتها شاهد راهب فى سيناء ملائكة يحملون جثمانها ويطيرون به إلى قمة جبل الدير فصعد الراهب إلى مكان الرؤية ليجد الجثمان فحمله إلى الدير ودفنه فيه ومن يومها سمى الدير باسمها وهناك يحتفلون بذكرى رحيلها فى يوم 8 ديسمبر من كل عام. 
ويؤكد الرهبان أن عظامها تنتج زيتا يجمعون قطراته ويبيعونه إلى زوار الدير بأثمان باهظة وهو ما ضاعف من شهرة الدير وتدفق الهدايا الثمينة إليه. 
 وفى عام 1229 شيد ملك فرنسا كنيسة كرسها لها وتبرع دوق نورماندى بمبالغ طائلة إلى الدير وقدم الرهبان أحد أصابعها إلى مدينة روان واخذوا بعدها يزورون المدينة كل عام لجمع التبرعات من الذهب والفضة لدعم الدير. 
- وعندما سيطر الأتراك على القسطنطينة عام 1453 وبسطوا نفوذهم على سيناء أجبروا رهبان الدير على دفع الجزية ( 700 قطعة ذهب ) فتبرع ملك فرنسا ( لويس الحادى عشر ) وملكة أسبانيا إيزابيل سنويا بأربعة أضعاف الجزية. 
وحسب ما نقل عن الرحالة الذين زاروا الدير منذ تشييده فإنه «كانت تنبعث من الرهبان ممن لم يغتلسوا رائحة خاصة قدستها المسيحية فى أوائل القرون الوسطى وهو ما تثبته الرواية الجميلة للقديسة مريم المصرية». 
كانت مريم ابنة شقيق الراهب إبراهام الذى رعاها بعد وفاة والدها ولكنها انحرفت عن الطريق وأصبحت عاهرة. حاول كبير الرهبان إعادتها إلى الصواب وتوسل إليها ولكن دون جدوى. 
ارتدى ثياب الجنود ودخل عليها على أنه زبون يرغب فى المتعة الحرام.. بل.. أكثر من ذلك تناول كأسا من الشراب. 
دخلت عليه مريم وراحت تداعبة واضعة يدها حول عنقه وما أن قبلته حتى انبعثت منه رائحة الزهد والتقشف فتذكرت مريم تلك الحياة التى عاشتها من قبل فى الدير. 
فى تلك اللحظة شعرت مريم وكأن رمحا اصاب روحها فأطلقت صرخة عالية وانخرطا فى النحيب بما غسلها من الذنوب وأعادها إلى خدمة الرب لتصبح شفيعة الخاطئات وطالبات التوبة والمغفرة. 
 ونسب إليها أن الشيطان ظهر لها متنكرا فى هيئة ملاك النور قائلا لها:
« أنظرى إلى إننى أخاطبك ». 
 فأجابت مريم : « أنظر إلى إننى غير جديرة بالمكانة التى يبعث فيها إلى بملاك النور فتش عن شخص آخر «. 
وفى الحال اختفى الشيطان.
لكن.. المعجزة الملموسة وجود مكتبة للدير بها 3000 مخطوطة نادرة ترجع إلى ما قبل تشييده.. وأغرت تلك المكتبة النادرة كثيراً من الباحثين اللاهوتيين فى الحصول على ما فيها من كنوز غيرت فى المعتقدات المسيحية. 
لقد قادت الصدفة قسطنطين تشيندروف للعثور على أقدم نسخة من الكتاب المقدس تعرف بالمخطوطة السينائية فى عام 1859 وصفها بأنها « جوهرة أبحاثى «. 
وحسب ما جاء فى مذكراته فإن كثيرا من المخطوطات الثمينة كانت ملقاة فى سلة مهملات القاعة الرئيسية للدير مما يعنى أن الرهبان وقتها لم يملكوا الخبرة الكافية للتعامل مع ما تحت أيديهم من ثروة تاريخية ودينية. 
فى مساء 4 فبراير من ذلك العام قام تشيندروف بجولة فى الدير وفى نهايتها اصطحب راهبا يونانيا شابا إلى استراحته لتناول المرطبات وفوجئ به يقول : إنه شاهد وقرأ النص اليونانى من الكتاب المقدس وأخذ من إحدى زوايا كهفه رزمة مربوطة بشريط قماش أحمر وطرحها أمامه. 
فى رسالته إلى زوجته أنجليكا يكتب تشيندروف وهو يقفز فى الهواء فرحا : « إن صفحات هذه المخطوطة فريدة من نوعها فى العالم وبما ان مخطوطة الفاتيكان ومخطوطة الإسكندرية المحفوظتين فى لندن خاليتين من النص الكامل للعهد القديم فإن تضمن هذه المخطوطة للعهدين معا مهمة للمعرفة المسيحية وليس هناك شك فى أن مخطوطة سيناء أقدم منهما واكتشافها يمثل حدثا مهما وبطبيعة الحال ليس فى الدير من يدرك قيمة هذه المخطوطة التى تحتوى أيضا على النص الكامل لرسالة برنابا التى عدت مفقودة «. 
وبعد أن وسط تشيندروف قيصر روسيا لدى الباب العالى فى تركيا وافق الرهبان على أن يحمل المخطوطة إلى مدينة بطرسبرج لاستنساخها وطبعها وإعادتها للدير وكتب تعهدا بذلك مشيرا إلى أن المخطوطة مؤلفة من 346 صفحة. 
وصدرت الطبعة الأولى من المخطوطة فى خريف عام 1862 فى الذكرى الألفية للقيصرية الروسية وأهداها تشيندروف للقيصر قائلا : «إن هذا الاثر المقدس من أيام أول إمبراطور مسيحى له مكانة مثل مكانة الكنز المقدس فى سفح الجبل الذى شاهد فيه موسى وجه الله وتسلم منه الوصايا العشر». 
وبعد مفاوضات شاقة وافق الدير على إهداء المخطوطة الثمينة للقيصر مقابل هدايا ثمينة ومبلغ من المال لا يزيد عن 9 الآف روبل أو ما يعادل وقتها 1850 جنيها استرلينيا ليتواصل نهب ونزيف ثروات مصر التاريخية من الآثار الفرعونية إلى المخطوطات الدينية لكن العيب فينا فنحن لا نعرف قيمة ما تحت أيدينا منها إلا بعد أن تكون قد هاجرت إلى غيرنا. 
وما أن انتصرت الشيوعية فى روسيا بعد الثورة البلشوفية عام 1917 حتى سمحت القيادة الجديدة للبلاد ببيع العديد من المخطوطات النادرة إلى الغرب. 
فى عام 1923 عرضت روسيا بيع مخطوطة سيناء بمئتى جنية استرلينى وقام الوسيط وهو بائع تحف يدعى باتينج هاوزن بالاتصال بالسير فردريك كيفين فى المتحف البريطانى لتبدأ أكبر عملية مساومة حول اثمن كتاب مقدس فى العالم انتهت إلى 100 الف استرلينى. 
مولت الحكومة البريطانية نصف الصفقة واستجاب الجمهور إلى دعوتها لتمويل النصف الآخر ووصلت المخطوطة إلى لندن يوم 27 ديسمبر عام 1933 بالقطار وحمل الوفد الروسى المخطوطة إلى مقر الحكومة البريطانية ومنها بالتاكسى إلى مقر المتحف البريطانى فى بلوم سبرى وهناك وجدوا جمهورا غفيرا رفع قبعاته إحتراما للكتاب المقدس. 
وفى أقل من شهر واحد كانت إيرادات المتحف من المخطوطة تغطى ثمنها. 
 إن دير سانت كاترين أكبر من مزار سياحى يشاهد الأجانب معماره أو يتفقدون قاعاته أو يقرأون سيرته أو يرتجفون من سماع معجزاته أو يشعرون برهبة وقدسية البيئة المقدسة من حوله. 
الدير ثروة من المعرفة يمكن أن يلحق بها مدرسة عليا للأبحاث اللاهوتية تكشف عما فيه من مخطوطات لم تعرف من قبل ويمكن إعادة طبعها وترجمتها إلى لغات مختلفة تأتى بعائد كبير على الدير يغنيه عن التبرعات. 
وتمتد ثروة الدير إلى الايقونات القديمة التى يمكن استنساخها وقد احتفظ بها من الهجمات القديمة التى حرمت التصوير فى المسيحية واجبرت الكنائس على تدمير ما لديها من ايقونات وصور للقديسيين. 
وربما كانت البداية إعلان وزارة الآثار عن ترميم مكتبة الدير وهو قرار يستحق التقدير ولكن لابد أن يصل ما فى تلك المكتبة من معرفة إلى العالم كله. 
ولو لم نفعل ذلك بأنفسنا سيقوم بذلك اللصوص والمهربين نيابة عنا.
 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة