الشيخ أحمد الطيب
الشيخ أحمد الطيب


الكلمة الكاملة للإمام الطيب أمام مؤتمر الأزهر : «2018 عام القدس»

إسراء كارم

الأربعاء، 17 يناير 2018 - 12:20 م

قال الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، خلال مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس «إن اليوم يدق ناقوس الخطر ويشعل ما عساه قد خبا وخمد من شعلة العزم والتصميم على ضرورة الصمود أمام العبث الصهيوني الهمجي في القرن ال 21».



واقترح أن يخصص عام 2018 ليكون عاما للقدس الشريف « تعريفا به ودعما ماديا ومعنويا للمقدسيين ونشاطا ثقافيا وإعلاميا متواصلا».

وأكد شيخ الأزهر أن كل احتلال إلى زوال وإن بدا اليوم وكأنه أمر مستحيل إلا أن الأيام دول وعاقبة الغاصب معروفة ونهاية الظالم وإن طال انتظارها معلومة ومؤكدة.

وأضاف: «نحن دعاة سلام لكنه السلام القائم على العدل والوفاء بالحقوق التي لا تقبل بيعا ولا شراء ولا مساومة و لا يعرف الذلة ولا الخنوع ولا المساس بذرة من تراب الأوطان أو المقدسات».

ولفت إلى أن: « الحقيقة المرة هي أن المقررات الدراسية في مناهجنا التعليمية والتربوية في كل مراحل التعليم عاجزة عن تكوين أي قدر من الوعي بالقضية الفلسطينية عامة وبالقدس خاصة».

وأشار إلى أن: «ما نفتقده في مناهج التعليم نفتقده أيضا في وسائل الإعلام المختلفة، في عالمنا العربي والإسلامي فالحديث عن فلسطين وعن القدس لا يكاد يتجاوز خبرا من الأخبار أو تقريرا رتيبا من تقارير المراسلين».

وحول القرار الجائر للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قال «الطيب»: « يجب أن يقابل بتفكير عربي وإسلامي جديد يتمحور حول تأكيد عروبة القدس وأن يتحول هذا التأكيد إلى ثقافة تحتشد لها طاقات الإعلام العربي والإسلامي».

نص كلمة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر في مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه.

فخامة الرئيس/ محمود عباس – رئيس السلطة الفلسطينية!

السادة أعلام المنصة!

أصحاب المعالي والسعادة وأصحاب النيافة والفضيلة!

السيدات والسادة!

الحضور الكريم!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وأهلا ومرحبا بحضراتكم في بلدكم مصر، وفي رحاب الأزهر الشريف، ونشكركم على تفضلكم بالحضور وبالمشاركة في هذا المؤتمر الدولي العام، مؤتمر: «نصرة القدس الشريف» والمسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله محمدﷺ.. هذا المؤتمر الذي ينعقد تحت رعاية كريمة ومشكورة من السيد الرئيس/ عبد الفتاح السيسي – رئيس جمهورية مصر العربية، والذي يرعى –مع مصر وشعبها-قضية فلسطين الحبيبة، وبخاصة ما آلت إليه -مؤخرا-من تعقيدات السياسات الجائرة والقرارات غير المسؤولة، فلسيادته ولكل القادة المسؤولين العرب والمسلمين، ولكل شرفاء العالم المهمومين بفلسطين وشعبها وبمقدساتها وأرضها خالص الدعاء بالتوفيق والسداد والقوة والعزم والصلابة التي لا تلين إلا للحق والعدل وإنصاف المستضعفين، وتحية للسيد الرئيس/ محمود عباس – رئيس السلطة الفلسطينية، نحييه، ونشد على يديه، وندعوه إلى المزيد من الصمود والثبات.

السيدات والسادة!

منذ أبريل عام 1948م من القرن الماضي والأزهر الشريف يعقد المؤتمرات تلو المؤتمرات عن فلسطين وعن المسجد الأقصى والمقدسات المسيحية في القدس، وقد تتابعت هذه المؤتمرات حتى بلغت أحد عشر مؤتمرا ما بين 1948 و 1988، وحضرها أساطين العلماء والمفكرين المسلمين والمسيحيين من أفريقيا وآسيا وأوروبا، وقدمت فيها أبحاث غاية في الدقة والعمق والاستقصاء، وبنفس المهموم الذي لم يتبق له إلا نفثات تشبه نفثات المصدور الذي فقد الدواء واستعصى عليه الداء.

وكانت هذه المؤتمرات في كل مرة تعبر عن رفض العدوان الصهيوني على مقدسات المسلمين والمسيحيين واحتلال بيت المسجد الأقصى ثم حرقه وانتهاك حرماته بالحفريات والأنفاق والمذابح في ساحاته، واغتصاب الآثار المسيحية وتدميرها، من كنائس وأديرة، ومآوي ومقابر في القدس، وطبرية ويافا وغيرها.

واليوم يدعو الأزهر للمؤتمر الثاني عشر بعد ثلاثين عاما من آخر مؤتمر انعقد بشأن القضية الفلسطينية والمقدسات الإسلامية والمسيحية.. ومؤتمرنا اليوم، رغم ثرائه الهائل بهذه العقول النيرة والضمائر اليقظة من شرق وغرب، قد لا يتوقع منه أن يضيف جديدا إلى ما قيل وكتب من قبل في «قضيتنا» وما يتعلق بأبعادها العلمية والتاريخية والسياسية، لكن حسب هذا المؤتمر أنه يدق –من جديد- ناقوس الخطر، ويشعل ما عساه قد خبا وخمد من شعلة العزم والتصميم، وإجماع العرب والمسلمين والمسيحيين وعقلاء الدنيا وشرفائها – على ضرورة الصمود أمام العبث الصهيوني الهمجي في القرن الواحد والعشرين، والذي تدعمه سياسات دولية، ترتعد فرائصها إن هي فكرت في الخروج قيد أنملة عما يرسمه لها هذا الكيان الصهيوني والسياسات المتصهينة.

والذي أعتقده اعتقادا جازما، هو أن كل احتلال إلى زوال إن عاجلا أو آجلا، وأنه إن بدا اليوم وكأنه أمر مستحيل إلا أن الأيام دول، وعاقبة الغاصب معروفة، ونهاية الظالم وإن طال انتظارها، معلومة ومؤكدة.. واسألوا تاريخ روما في الشرق، واسألوا الفرس عن تاريخهم في شرق جزيرة العرب، واسألوا حملات الفرنجة (والتي يسميها الغرب بالصليبية)، والتي طاب لها المقام في فلسطين مائتي عام، واسألوا الدول التي طالما تباهت بأن الشمس لا تغرب عن مستعمراتها، واسألوا الاستعمار الأوروبي وهو يحمل عصاه ويرحل عن المغرب والجزائر وتونس ومصر والشام والعراق والهند وإندونيسيا والصومال.. اسألوا جنوب أفريقيا ونظام التمييز العنصري وما آل إليه، اسألوا كل هؤلاء لتعلموا -من جديد-أن الزوال هو مصير المعتدين، وأن كل قوة متسلطة –فيما يقول ابن خلدون- محكوم عليها بالانحطاط، وصدق شاعرنا العربي في قوله:

والليالي –كما عهدت-حبالى *** مثقلات يلدن كل عجيب

فهذه حقيقة كونية وسنة إلهية، والشك فيها «زراية بالعلم، وزراية بالعقل، وزراية بأمانة التفكير».

إلا أن هذه الحقيقة مقرونة بحقيقة أخرى تسبقها وتعد لولادتها، وأعني بها امتلاك القوة التي ترعب العدوان وتكسر أنفه وترغمه أن يعيد حساباته، ويفكر ألف مرة قبل أن يمارس عربدته وطغيانه واستهتاره واستبداده، وعلم الله أننا –رغم ذلك- دعاة سلام، لكنه السلام القائم على العدل وعلى الاحترام، وعلى الوفاء بالحقوق التي لا تقبل بيعا ولا شراء ولا مساومة، سلام لا يعرف الذلة ولا الخنوع ولا المساس بذرة من تراب الأوطان أو المقدسات.. سلام تدعمه قوة علم وتعليم واقتصاد وتحكم في الأسواق، وتسليح يمكنه من رد الصاع صاعين وبتر أ ي يد تحاول المساس بشعبه وأرضه.

.. .. ..

وإذا كان قد كتب علينا في عصرنا هذا أن يعيش بيننا عدو دخيل لا يفهم إلا لغة القوة، فليس لنا أي عذر أمام الله وأمام التاريخ في أن نبقى حوله ضعفاء مستكينين متخاذلين، وفي أيدينا – لو شئنا - كل عوامل القوة ومصادرها المادية والبشرية..

وأنا ممن يؤمن بأن الكيان الصهيوني ليس هو الذي ألحق بنا الهزيمة في 48 أو 67 أو غيرهما من الحروب والمناوشات، وإنما نحن الذين صنعنا هزيمتنا بأيدينا، وبخطأ حساباتنا وقصر أنظارنا في تقدير الأخطار، وتعاملنا بالهزل في مواطن الجد. وما كان لأمة موزعة الانتماء، ممزقة الهوية والهوى أن تواجه كيانا يقاتل بعقيدة راسخة، وتحت راية واحدة، فضلا عن أن تسقط رايته وتكسر شوكته، وصدق الله العظيم: ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾ {الأنفال: 46}.

السادة الحضور!

إنني على وعي تام بأن كلماتي هذه قد لا تتمخض عن جديد يذكر، وأنها مازالت تدفق من رحم الآلام والأوجاع، وأن تأثيرها لا يعدو تأثير ما قرع أسماعنا وآذاننا، عبر سبعين عاما، من خطب أساطين السياسة والعلم والفكر والإعلام، دون أن يغير واقعا أو يوقف شهوة مسعورة في القضم والابتلاع، أو يعبر عن دماء سكبت وعن تضحيات ومعاناة وآلام في السجون والمعتقلات، تعرض لها شعب فلسطين وشبابها ونساؤها وأطفالها، في مقاومة صامدة لا تلين، وصبر لا ينفد وعزيمة لا ضعف فيها ولا وهن.

نعم! قد يقال مثل ذلك في كلمتي هذه أو عن مؤتمرنا هذا، ولكن ما أظنكم تختلفون معي في أن مؤتمر اليوم يختلف كثيرا عن سابقيه، لأنه ينعقد في ظروف وملابسات تشبه السحب الداكنة التي تنذر بالسيول الجارفة؛ فقد بدأ العد التنازلي لتقسيم المنطقة وتفتيتها وتجزئتها، وتنصيب الكيان الصهيوني شرطيا على المنطقة بأسرها تأتمر بأمره، ولا ترى إلا ما يراه هو ويريها إياه، وما على المنطقة إلا السمع والطاعة، وإن نظرة على ما يدبر لهذا الوطن على شواطئ الأطلسي، ومداخل البحر الأحمر وشواطئ شرق المتوسط، وامتداداتها، في اليمن والعراق وسوريا – لجديرة بالتنبيه إلى أن الأمر جلل، وأن ترداد الخطب واجترار الشعارات لم يعد يناسب حجم المكر الذي يمكر بنا، وأننا لو واجهناه بما اعتدنا مواجهته به منذ سبعة عقود فلسوف تلعننا الأجيال القادمة، ولسوف يخجل أحفادنا من أن نكون آباءهم وأجدادهم، وإذا كان لي من أمل أنتظر تحقيقه من لقائنا هذا فهو أن يتمخض هذا المؤتمر عن نتائج عملية غير تقليدية، تستثمر فيها الطاقات وتنظم الجهود مهما صغرت أو بدت غير ذات شأن.. وأول ذلكم وأهمه هو: إعادة الوعي بالقضية الفلسطينية عامة وبالقدس خاصة، فالحقيقة المرة هي أن المقررات الدراسية في مناهجنا التعليمية والتربوية في كل مراحل التعليم عاجزة عن تكوين أي قدر من الوعي بهذه القضية في أذهان ملايين الملايين من شباب العرب والمسلمين، فلا يوجد مقرر واحد يخصص للتعريف بخطر القضية، وبتاريخها وبحاضرها وتأثيرها في مستقبل شبابنا الذي سيتسلم راية الدفاع عن فلسطين، وهو لا يكاد يعرف عنها شيئا ذا بال، وذلك بالمقارنة بشباب المستوطنات الذي تتعهده منذ طفولته مناهج تربوية ومقررات مدرسية وأناشيد وصلوات تشكل وجدانه العدائي.. وتغذيه بالعنصرية، وكراهية كل ما هو عربي ومسلم.. وهذا الذي نفتقده في مناهج التعليم نفتقده أيضا في وسائل الإعلام المختلفة، في عالمنا العربي والإسلامي، فالحديث عن فلسطين وعن القدس لا يكاد يتجاوز خبرا من الأخبار، أو تقريرا رتيبا من تقارير المراسلين، لا يلبث أثره أن يذهب بانقضاء الخبر وذهاب المذيع إلى خبر آخر.

وثاني المقترحات هو: أن القرار الجائر للرئيس الأمريكي والذي رفضه أكثر من ثمان وعشرين ومائة دولة، وأنكرته كل شعوب الأرض المحبة للسلام، يجب أن يقابل بتفكير عربي وإسلامي جديد يتمحور حول تأكيد عروبة القدس، وحرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية، وتبعيتها لأصحابها، وأن يتحول هذا التأكيد إلى ثقافة محلية وعالمية تحتشد لها طاقات الإعلام العربي والإسلامي، وما أكثره، وهو الميدان الذي هزمنا فيه ونجح عدونا في تسخيره لقضيته.

وعلينا ألا نتردد في التعامل مع قضية القدس من المنظور الديني: إسلاميا كان أو مسيحيا.

ومن أعجب العجب أن يهمش البعد الديني في مقاربات القضية الفلسطينية، بينما كل أوراق الكيان الصهيوني أوراق دينية خالصة لا يدارونها، ولا يحسبونها سوءات يتوارون منها، وماذا في يد هذا الكيان من مبررات في اغتصاب أرض تنكره، بل تنكره آباءه وأجداده غير التهوس بنصوص وأساطير دينية تبرر العدوان، وتستبيح دماء الناس وأعراضهم وأموالهم! بل ماذا في يد الصهيونية المسيحية الحديثة التي تقف وراء هذا الكيان وتدعمه وتؤمن له كل ما يحلم به، غير تفسيرات دينية زائفة مغشوشة يرفضها آباء الكنيسة وعلماء المسيحية وأحبارها ورهبانها وينكرونها أشد الإنكار.

واقتراحي الذي أقدمه لحضراتكم لتنظروه ولتروا فيه ما ترون، هو أن يخصص هذا العام عام 2018م ليكون عاما للقدس الشريف: تعريفا به، ودعما ماديا ومعنويا للمقدسيين، ونشاطا ثقافيا وإعلاميا متواصلا، تتعهده المنظمات الرسمية كجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والمؤسسات الدينية والجامعات العربية والإسلامية، ومنظمات المجتمع المدني وغيرها.

وختام كلمتي نداء للأمة أن تتنبه نخبها إلى أنها أمة مستهدفة -وبمكر شديد- في دينها وهويتها ومناهجها التعليمية والتربوية، ووحدة شعوبها وعيشها المشترك، وعلى الأمة أن تعتمد على سواعدها، وأن تستعيد ثقتها في الله وفي أنفسها وفي قدراتها، وألا تركن إلى وعود الظلمة القابعين وراء البحار ممن قلبوا لنا ظهر المجن، وتجاوزوا كل الخطوط الحمراء، 'ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون»{هود: 113} صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة