عبد العزيز ستاتي خلال حفله الأخير بمهرجان موازين
عبد العزيز ستاتي خلال حفله الأخير بمهرجان موازين


كيف انحاز الفقراء لمزاجهم أمام دعاية "ملكة" الخليج ؟

ليلة اكتشاف "كشكول" الأغنية الشعبية المغربية

مصطفى حمدي

الثلاثاء، 03 يوليه 2018 - 04:38 م

دقيقتان فقط وسأستسلم للنوم أسفل المسرح ، لقد تأخرت أحلام لساعة كاملة عن موعد حفلها في ختام مهرجان موازين ، الجمهور لم يأتي لها بالأعداد المتوقعة حتى الأن ، هذا رغم كل الضجة الدعائية التي أثارتها "الملكة" لتكسب تعاطف المغاربة. قبل وصولها إلى الرباط أعلنت المطربة الإماراتية تنازلها عن أجرها تضامنًا مع حملات مقاطعة المهرجان، سلوك خيري مصبوغ بالانتهازية المتأصلة في الشخصية الخليجية، عزفت أحلام كثيرًا على نغمة التضامن مع الفقراء كي يبيضوا وجهها في ليلة الختام، ولكن الحقيقة أن الفقراء الغاضبون بسبب الملايين المنفقة على أجور النجوم ذهبوا إلى مكان آخر، إلى من يعبر عنهم ، شدوا الرحال إلى مطرب آخر تنازل عن أجره دون ضجة أو مزايدة سياسية فصدقوه ولم يصدقوا ملكة الدولارات والريالات!

أخيرًا صعدت أحلام إلى المسرح، نوايا الملكة البريئة قابلتها مشاكل في هندسة الصوت أعاقتها عن الغناء بشكل سليم ، بدأ الملل يتسرب لي دقيقة بعد أخرى، في الحقيقة صوت أحلام لم يعالج دماغي من تأثير طاجن "اللحم بالبرقوق" الذي تناولته على العشاء ، شربت فنجانين من القهوة وكوب شاي بلا فائدة ، اتثاءب بينما صديقي عادل زبيري مراسل قناة العربية بالرباط يضحك قائلًأ: أعرف أنه لاعمار بينك وبين الأغنية الخليجية!

كل شيء يقودني إلى النوم في فراشي مبكرًا ، إلى أن اقترح علي عادل الذهاب سويًا إلى منصة "سلا" لنلقي نظرة على حفلات الأغنية الشعبية المغربية هناك . مدينة "سلا" ضاحية مجاورة للعاصمة الرباط، تقع على ضفاف نهر أبي الرقراق وتطل على المحيط، وراء سلا حكايات كثيرة عن طرق التجار في العصور القديمة خاصة وأنها كانت نقطة عبور للتجارة بين المغرب وأوروبا ، ولكنها الأن تبدو لي نقطة عبور إلى الفن الشعبي المغربي ، أميل كثيرًا لسماع موسيقى "الكناوة" و "الراي" و "الموشحات الأندلسية" ، ولكن ظلت الأغنية الشعبية المغربية بئرًا عميقُا لا أصل لنهايته ، هنا في ساحة "سلا" كان مشهد البداية مثيرًا جدًا وفاتحًا لشهية الاستكشاف.

قطعنا الطريق بالسيارة من حي "النهضة" إلى سلا ، الشوارع شبه خالية مع اقتراب الساعة من منتصف الليل ، تبدو الرباط كمدينة للملائكة نهارًا ، ومرتعًا للأشباح ليلًا ، يكسر عادل الصمت وهو يدندن بعض الموشحات والطقاطيق وأرددها معه ويشاركنا السائق اللحظات التي تسبق الاحتفال ، أمام ساحة سلا نزلنا من السيارة ، قطعنا المسافة سيرًا حتى باب الدخول وسط سيولة مرورية تنظيمية مريحة ، ووجوه مبتسمة هادئة من رجال الأمن وحفاوة من منظمي المهرجان ، أغلبهم شبان وشابات ودودين ومهذبين جدًا جمعتنا بهم الصداقة بمرور السنوات ، توجهنا الى المنطقة المخصصة للصحافة والإعلام أمام المسرح مباشرة ، إلى جوارنا وقف مراسل التليفزيون الفرنسي الذي جاء خصيصًا ليصور تقريرا عن هذا الحفل، لماذا كل هذا الاهتمام ؟ من هذا المطرب الذي يحتشد له الأن أكثر من 80 ألف متفرج على شاطي البحر ؟!

هنا عبد العزيز الستاتي ، أحد أهم نجوم الأغنية الشعبية المغربية ، قال لي عادل : هذا الرجل أحد أهم مطربي الأفراح في المغرب ، يغني لونًا من الفن الشعبي نسمية "الجرة" .

بقليل من البحث ستكتشف أن المقصود بالجرة هو جرة وتر الكمان ، حيث يتراقص الستاتي مع الكمنجة بحركات عصيبة تجعلها تصرخ صراخا كالنواح ، واحيانا أخرى مثل زقزقة العصافير ، وتارة كصافرات الانذار بينما الجمهور يهتف ورائها بنفس الطريقة في تناغم مدهش.

يهتف عادل فرحًا بالحفل : "تراها نايضة نايضة" ، أي مشعلله بالمصري ! يتراقص الجميع وتتناثر رمال الشاطيء وسط قفزات الالاف بينما أجسادهم تميل يمينا ويسارا بخفة ، يشير "الستاتي" إلى الجمهور بكمنجته فيتعالى الرقص معه وهو يغني أغنيته الشهيرة "اعطيني فيزا وباسبور" ، ثم قدم أغنية أخرى يذكر فيها أسماء أولياء الله الصالحين، قبل أن يغني "سيدنا" لملك المغرب، أغلب أغاني "الستاتي" ورفاقه ملوك الشعبي المغربي مثل "الستاتية" و "الصنهاجي" و "الداوودي" تحمل طابعا اجتماعيًا ولكن ما يغنيه الستاتي ينتمي لفن "العيطة" وهو لون غنائي ظهر في البدايات مشحونًا بالرسائل السياسية خلال عصور الاستعمار ، ثم صُبغ بلون صوفي على أيدي المتصوفة، هو أقرب الى النواح والعديد في الصعيد ولكن بشكل أكثر بهجة وقبولًا للحياة عبر السخرية من الواقع، وربما لايخلو الأمر من بعض أغاني الغزل في مفاتن جميلات المغرب بلهجة شعبية تحكي قصص الحب ببساطة وخفة ظل.

طوال أيام المهرجان والحديث الدائر حول المقاطعة في وسائل الاعلام لا يحمل إجابة شافية ، هل هناك مقاطعة حقيقية ناجحة لمهرجان موازين؟

يرى البعض المقاطعة واضحة كالشمس في حفلات المطربين العرب مثل ملحم زين ونانسي عجرم ومروان خوري، بينما يتحطم مصطلح المقاطعة أمام مسارح الحفلات الشعبية، إذن نحن أمام مزاج عام يبحث عن فنه الخاص بعيدًا عن الأغنية التجاربة العربية المستهلكة القادمة عبر أصوات مطربي "المشرق" العربي ، مصطلح المشرقيين منتشر ثقافيًا وإعلاميًا في المغرب، ولكن حضوره دائمًا مرتبط بغضب من رؤية أهل الشرق القاصرة للثقافة المغربية وفنونها ، فعلى مدار سنوات طويلة استوعب المستمع المغربي الأصوات المصرية على حس محبة أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ، ومد جسور المحبة بينه وبين الشام عبر أصوات فيروز ووديع الصافي وفريد الأطرش وأسمهان ، ولكن هذا التأثر بدأ يتلاشى يومًا بعد الأخر وسط فراغ فني حقيقي لم تملأه أصوات مشرقية ، الوجدان المغربي أصبح أكثر اتساعًا للتشبع بما هو أعمق من الغناء للحب والعشق والغرام على طريقة كاظم الساهر مثلًا ، فمال إلى سماع موروثه الشعبي والتفاعل معه لأنه يعبر عن الواقع ولم يظل حبيسًا لخيال الرومانسية ، لهذا قاطع الجمهور الأصوات المفلسة فقط ولم يقاطع المهرجان، وانحاز إلى من يغنون بلسانه .

انتهى حفل الستاتي وسط مطالبات من الجمهور بالبقاء حتى الصباح ، العرق ينهمر على جبين الرجل بغزاره وهو يحمل علم المغرب على كتفيه لينهي الحفل وسط تصفيق حار ، انطلق "الستاتي" الى غرفته في الكواليس ليستريح ، أعتقد أنها فرصة لطيفة كي التقي بالرجل لأول مرة ، لدي شغف حقيقي لاكتشاف هذا المطرب .

على باب الغرفة قابلنا مدير أعماله ، شاب صغير مهذب ودبلوماسي ، قدمني عادل له قائلًا : صديقي صحفي مصري ويريد مقابلة الستاتي لدقائق .

رحب بي الشاب جدًا ، قبل أن يقف لينظم مقابلات مطربة مع القنوات العربية والمحلية ، مقارنة بمديري اعمال مطربينا في مصر هذا شاب محترف يعرف مهام عمله جيدًا ، قبل أن أدخل سألت عادل : لماذا يسمونه الستاتي .. هل هو اسم العائلة ؟

بعد دقائق دخلنا ، رحب بنا الرجل ترحيبًا حارًا وهو يقول : "أهلا بمصر وناس مصر حبايبي" ، أبديت له اعجابي الشديد بحفله ، بينما ابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه ، تحدثنا عن الأغنية الشعبية المغربية ، سألته عن سبب تنازله عن أجره فقال : "تنازلت عن أجري لصالح علاج الاطفال المصابين بالسرطان ، لا علاقة للامر بمقاطعة أو ما شابه ، كيف نشجع مقاطعة مهرجان بلدنا .. لا أريد المال أريد أن أغني لأهلي وناسي وأسعدهم مجانًا ".

تحدث "الستاتي" عن مصر بمحبة شديدة ، قال وهو يتحدث المصرية جاهدًا : أنا بحب أحمد عدوية ، صاحبي وحبيبي من زمان ونفسي أغني مصري ، عندي أغنية مطلعها بيقول "اديني وزة حلوة" بس عايز اكمل باقي الكلام وبدور على شاعر مصري يكتبه "

للحظة ما التقطت عيني تفصيلة في يد الرجل ، لديه اصبع سادس ، انتبه عادل لنظرتي فابتسم ، خرجنا من الغرفة بعد السلام والتحية ، قلت لصديقي : بسبب هذا الأصبع "الساتت" تسمونه الستاتي ؟! يا أخي انتوا عليكم حاجات عجيبة .

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة