حكايات| «مونوي».. جمهورية الأشباح تسكنها وتحكمها «امرأة واحدة»
حكايات| «مونوي».. جمهورية الأشباح تسكنها وتحكمها «امرأة واحدة»


حكايات| «مونوي».. جمهورية الأشباح تسكنها وتحكمها «امرأة واحدة»

أحمد الشريف

الإثنين، 01 أكتوبر 2018 - 04:59 م

 

تناثرت العيون من حولها تحيطها بنظرات الدهشة الممزوجة بالشفقة، وتبعثرت قصتها على أرصفة الشوارع، الجميع ينظر إليها باستغراب، ويرسم على وجهه علامات استفهام كبرى، فهم لا يستوعبون، كيف لها أن تعيش وحيدة في بلدة بأكملها.. كيف قبلت أن تسكن مدينة لا يزاحمها فيها إلا الأشباح.. لمن تلجأ حين يمتلأ جوفها بالكلمات.. أين تلقي بعبء الوحدة في بلدة خلت من البشر إلا هي؟

 

فيض من الاستفهامات هنا وهناك، ولكنهم لا يعلمون حقيقتها، وحدها فقط تعلم من «هي»، تجد في وحدتها رفقاء عدة مرتكزة في ذلك على القصة التي سردها الأجداد، حين قصوا بأن: «حكيم دخل على حكيم في منزله وهو متوحد، فقال له: أيها الحكيم، إنك لصبور على الوحدة. فقال: ما أنا وحدي فمعي جماعة من الحكماء والأدباء يخاطبونني وأخاطبهم.. وضرب بيده على رصة كتب بجانبه، وقال: هذا جالينوس حاضرا، وهذا بقراط يناظر، وسقراط واعظ، وأفلاطون لاقط.. وهذا داوود المعلم».

 

 

بلدة خالية.. إلا من امرأة

 

لا تسقط حين تكون وحيدة، الظلمة حولها فيضا من نور يغمر قلبها – الذي بحجم بلدتها - والقهر هنا ليس له موضع قدم، فالأمل والإرادة يحتلان من كيانها كل شبر، دماؤها يسري فيها إكسير الحياة والحب والحكمة، فلقد نذرت نفسها للوحدة والحرية، وما أعظمه من نذر.. بطلة تلك القصة الأمريكية «إلسي إيلير»، البالغة من العمر 84 عاما، والتي تعيش بمفردها في بلدة مونوي التابعة لولاية نبراسكا الواقعة في الولايات المتحدة الأمريكية، والخالية تماما من السكان.

 

اقرأ حكاية أخرى| قرية العميان.. آفة بلدتنا «الزواج»

 

«إن هذا الأمر يجعلني أشعر بالفخر لأنني استطعت جذب أنظار العالم إلى بلدتي الصغيرة، وكذلك جلب الاهتمام بها».. بتلك الكلمات تختصر «إيلير» قصتها، مشيرة إلى أنها جمعت أربعة سجلات تحتوي جميعها على توقيعات الزائرين من كل بقاع الأرض، الذين جاءوا ليشاهدوها، ويشاهدوا بلدتها التي لا يوجد بها شخص آخر غيرها. 

 

حياة وسط القبور

 

مبنى أبيض يقف متماسكا بشعور من الفخر، وسط مجموعة من البيوت المهجورة التي ربما لا تخلو من شبح يرقد على أطلالها، ويبدو أنه لم يدهن منذ سنوات، ورغم ذلك الإهمال الذي لم يترك شيئا في جسده إلا ونال جزءا منه، لكنه متمسك برونقه مكتسي بجمال من نوع خاص وكأنه يضج بالحياة وسط قبور لا تخلو من الموتى، إنه منزل السيدة «إيلير» الذي يقع في قلب البلدة محتميا في حوائط الكنيسة المهجورة التي تقع أمامه، والتي تستند متكئة على إطارات الجرارات الزراعية القديمة.

 

ولأن من رحم الخراب تولد الحياة، تعيش السيدة «إيلير» وسط هذا الخراب، لتكسوه برداء الحياة والحب والحكمة، حيث أنها تشغل كل المناصب الإدارية بالبلدة، بداية من منصب العمدة، ومرورًا بالموظفة الإدارية الوحيدة، وأمينة الصندوق، وأمينة مكتبة البلدة كذلك، فهي الشخص الوحيد الذي يحيا في أصغر بلدة أمريكية في الوقت الحالي، كما تقوم بدفع الضرائب لنفسها؛ بل إنها تصوت لنفسها بانتخابات العمدة، حيث لا يوجد مرشحون ولا مصوتون سواها.
 

ديمقراطية امرأة

 

في ظل حالة الديمقراطية التي تعيشها السيدة «إيلير»، والتي لا يشعر بها سواها، فإنها مجبرة بصورة أو أخرى على إجراء انتخابات لاختيار عمدة بلدتها، حيث أنها في كل عام من نفس الوقت الذي يحين فيه موعد الانتخابات، تقوم بتعليق لافتة تعلن عن انتخابات اختيار العمدة، وذلك على مقر النشاط التجاري الموجود بالبلدة، وهو تلك الحانة التي تديرها بنفسها، ثم تقوم بعد ذلك بإجراء عملية التصويت لصالح المرشح الأوحد الموجود بالبلدة بالطبع، والتي لا يكون سواها.

 

اقرأ حكاية أخرى| «جسر الموت».. كل موضع قدم «مُدمن»

 

وربما بدون تلك الانتخابات - التي تكون فيها الناخب والمرشح والرقيب - قد لا تحصل على حصة البلدة في التمويلات المقدمة من الولاية، وما يترتب عليه من تقديم خطة سنوية لإدارة الشؤون المحلية في مونوي.

 


 

الحكم على النفس

 

«إيلير»، تمارس سلطتها في بلدتها على نفسها، إذ تقوم بتحصيل الضرائب المستحقة عن نفسها والتي تصل إلى 500 دولار سنويا، ما يضمن لها استمرار تلك الخدمات الحكومية التي تتمثل في إضاءة ثلاثة أعمدة إنارة بكامل البلدة، بالإضافة إلى استمرار توصيل خدمات المياه إلى منزلها.

 

وبخلاف الوضع الاجتماعي الذي تعيشه «إيلير» بحكم أنها عمدة البلدة، إلا أن ذلك لم يمنعها من متابعة مشروعها الخاص، حيث تقوم بإدارة حانة صغيرة - عُلق على بابها لافتة كُتب فيها: «مرحبا بكم في أشهر حانة عالمية في مونوي»، والحانة تركها لها زوجها الذي كانت تدعوه بـ«رودي»، وتقوم فيها بإعداد بعض الأطعمة، وكذلك تجهيز زجاجات الخمور؛ استعدادًا لأي زيارة من بعض الزبائن المحتملين.

 

 اقرأ حكاية أخرى| إيران «الإسلامية».. كثير من الدعارة والمخدرات قليل من الدين

 

وبوفاة الزوج «رودي» في عام 2004، أصبحت «إيلير» تقطن تلك البلدة بمفردها، وتغيرت إحصائيات تعداد السكان، والتي كانت تسجل فردين، حتى تسجل فردًا واحدًا على ظهر تلك البلدة، ليس للعيش فيها فحسب؛ بل يتولى إدارتها كاملا بمفرده.

 

وفي أخر الإحصائيات الأمريكية الخاصة بتعداد السكان، أكدت أن بلدة «مونوي» هي المكان الوحيد في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يبلغ عدد سكانه شخصًا واحدًا فقط!

 

وعليك أن تذهب إلى تلك الأطراف الشمالية النائية لولاية نبراسكا الأمريكية، لتجد ذلك الطريق الترابي الوعر الذي يمر وسط الأراضي الخضراء، وحقول القمح الذهبية، حتى تتمكن من الوصول إلى بلدة مونوي.

 


 

تاريخ مونوي

 

وبوجه ضاحك تفجرت فيه السخرية، تقول «إيلير»، أنها «حين تتقدم بطلب للحصول على التراخيص اللازمة لبيع الخمور والتبغ من الولاية.. فيتم مراسلتها، حيث إنها أمينة الصندوق بالبلدة، ثم تقوم بدورها بالتوقيع عليها بصفتها الموظفة الإدارية كذلك، ومن ثم تتسلمها من نفسها لأنها مالكة الحانة».

 

اقرأ حكاية أخرى| نساؤها يقطعن أصابعهن حزنًا.. «داني» قبيلة «تقديس» الموتى 

 

وتحكي «إيلير» عن ماضي تلك البلدة، التي كانت في ثلاثينيات القرن الماضي محطة سكة حديد بطريق مدينة «إلكورن»، كما أن عدد السكان وقت ذاك بلغ 150 نسمة، وكانت أنشطة التجارة ومحال البقالة وكذلك المطاعم تنتشر بها، كما أنها كانت تضم سجنًا حكوميًّا يزيد من عدد الزائرين للبلدة.

 

وتقول «إيلير» إنها «عاشت طفولتها في تلك المزرعة الوحيدة بمونوي، وهناك قابلت زوجها الراحل رودي، أثناء التحاقهما بالمدرسة الابتدائية ذات الفصل الواحد هناك، وبدأت قصتهما معًا، عندما كانا يستقلان نفس الحافلة لارتياد المدرسة الثانوية التي كانت تبتعد عن البلدة بما يقرب سبعة أميال».

 

 

«في مرحلة لاحقة اتجه رودي إلى الخدمة العسكرية والتحق بالقوات الجوية الأمريكية، ثم ذهب إلى فرنسا لتأدية الخدمة هناك إبان الحرب الكورية».. أما أنا فقد ذهبت إلى مدينة كانساس للعمل في شركة طيران»، بحسب إيلير، التي أضافت: «كنت أحلم بأن أكون مضيفة جوية، وما كان يجمح حلمي هذا، هو عدم اكتراثي للعيش في المدينة، فقد كانت طبيعة الحياة في مونوي تستهويني، ولا أرغب في الانتقال للحياة بمكان آخر».

 

 

لم تنته قصة «إيلير»، إذ واصلت حكايتها، بقولها: «عندما وصلت إلى الـ 19 من عمري، عدت أنا ورودي إلى البلدة مرة أخرى، وأعلنا زواجنا الذي أسفر عن طفلين، ثم أبدى رودي رغبته في إعادة افتتاح الحانة التي كان يمتلكها والدها، حيث كان يعمل في مخزن الحبوب الخاص بالبلدة، وفي توصيل الوقود للمحطات الخاصة بعد انتهاء خدمته العسكرية.

 

اقرأ حكاية أخرى| «مولوسيا».. أصغر دولة بالعالم تعدادها 32 نسمة وتهدد ألمانيا وأمريكا

 

«رحبت بذلك وقمنا سويا بإعادة افتتاح الحانة في عام 1971.. وإعادة افتتاح الحانة تزامن مع إغلاق العديد من المحال والأنشطة الموجودة هناك، بعد أن تدهورت الأوضاع الزراعية عقب الحرب العالمية الثانية، التي أثرت على الأنشطة الريفية بمنطقة السهول العظمى بالولايات المتحدة، وهو ما جعل العديد من المجتمعات وبشكل كامل تفضل الرحيل من هذا المكان».. بهذه الكلمات واصلت السيدة العجوز حديثها.

 

58 عاما على أخر جنازة

 

وتشير السيدة الأمريكية إلى أنها «في عام 1960 أقيمت آخر مراسم جنائزية في كنيسة مونوي، والتي كانت تخص والد إيلير، وبعدها أغلق مكتب البريد الخاص بالبلدة، وتلاه ثلاثة من محال البقالة فيما بين عامي 1967، و1970، ثم أغلقت مدرسة القرية عام 1974، وظلت الأمور على هذا المنوال، حتى وصل عدد السكان قبل حلول عام 1980، إلى 18 شخصا فقط».

 

«الوحدة» لم تسيطر يوما على مشاعر «إيلير»، التي خططت لحياتها أن تستمر بالعمل يوميًّا، حيث تستيقظ صباح كل يوم، وتسير على بعد خطوات من منزلها لتكون في التاسعة صباحا في تلك الحانة، وتستمتع بإجازتها الأسبوعية يوم الاثنين.

 

اقرأ حكاية أخرى| أبو «دقة» جنان.. «الكشري» أكلة ليست مصرية

 

وربما يشعرها زبائن الحانة المنتظمين بدفء الصداقة، حيث إنهم يقطعون مسافة 20 أو 30 ميلا، ليصلوا إلى الحانة لقضاء أمسيات يوم الأحد، وربما يقطع آخرون مسافة تصل إلى 200 ميل، في رحلة تستغرق 10 ساعات تقريبا، من أجل زيارتها والاطمئنان عليها، وهؤلاء أشخاص قد عرفتهم جيدًا على مدار السنين التي أدارت فيها الحانة مع زوجها الراحل، ثم تقوم لغلق حانتها بعد التاسعة والنصف من مساء كل يوم، وهنا يعود ذلك الصمت إلى البلدة كاملة.


 

 

 

الأصدقاء المميزون

 

حين تعود «إيلير» إلى مملكتها الخاصة هناك أصدقاء من نوع أخر يكونون في صحبتها، وربما هؤلاء الأصدقاء أكبر إرث حصلت عليه من زوجها «رودي»، حيث أنه كان قارئًا دءوبًا، فقد جمع ما يقرب من خمسة آلاف كتاب ومجلة، وكانت أمنيته الوحيدة التي أبلغ بها قبل وفاته بوقت قصير، هي أن تتحول مكتبته الخاصة إلى مكتبة عامة في البلدة. وبالفعل تعاون أبناؤه وأحفاده لبناء المكتبة، وساهموا في بناء الأرفف، ودهان الحوائط بأنفسهم، وكتبوا لافتة بخط اليد تحمل اسم «مكتبة رودي»، والتي تقع بجوار تلك الحانة، والتي صادقتهم «إيلير» على مدار سنوات كانت تجلس بين أيديهم.

 

اقرأ حكاية أخرى| «شيشنجية مصر».. سر تحويل التراب إلى ذهب (ملف تفاعلي)

 

وتمتد عائلة إيلير لتشمل، بجانب ابنيها، خمسة أحفاد، واثنين من أبناء الأحفاد، لكن أقرب فرد في عائلتها يعيش على بعد 90 ميلا منها، في مدنية بونكا بولاية نبراسكا، بينما يعيش الآخرون في أماكن متفرقة تشمل أريزونا، وهولندا.

 

وتقول إيلير: «أعرف أنه كان بإمكاني أن أنتقل للعيش مع ابناي، أو أن أبقى معهما وقتما أشاء، لكنني كنت أفكر في أنه ينبغي علي أن أكسب أصدقاء جددا مرة أخرى. فطالما كان بمقدوري البقاء هنا، فهذا هو المكان الذي أرغب أن أكون فيه حقا. وأعتقد أنه من الصعب أن تغير عاداتك عندما تكبر في السن».

 

الوحدة شيء جميل.. هذا ما تثبته «إيلير» من خلال تجربتها، قد لا يُعجبك أن تعيش وحيدا منعزلا عن كل الضجيج الذي ينبعث من البشر، لكن تلك السيدة الأمريكية استطاعت بل استمتعت بانعزالها ووحدتها، وتجد فيها الملاذ الآمن والأجمل لحياتها، بل ولا تستطيع أن تحيا أخرى غير تلك التي تصادق فيها الوحدة والكتب وربما الأشباح.

 

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة