الكاتب الشاب عمر يوسف
الكاتب الشاب عمر يوسف


إبدعات القراء| قصة قصيرة بعنوان «لأنها علمتني الحب»

نادية البنا

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018 - 09:16 م

 

تنشر «بوابة أخبار اليوم» قصة قصيرة بعنوان "لأنها علمتني الحب" للكاتب الشاب عمر يوسف. 

كل قصة وحكاية تحمل بين طياتها أثر نفسي لدي الإنسان قد يكون قصير المدى سريع الذوبان من الذاكرة، أو طويل المدى قد تحتفظ به الذاكرة مدي الحياة، ليس هذا فحسب بل قد يزداد وضوحاً وصلابة كلما تراكمت عليه السنوات.. إلا أن هذه القصة لها بعد واحد فقط يبدأ وينتهي عندي، دون أن يزاحمني فيها أبطالاٌ آخرين، لذلك لا أزال أتذكرها رغم مرور ما يقرب من خمسة عشر عام علي وقوع أحداثها.

كانت نقطة البداية عندما كنت أُدّرس العلوم السياسية لطلبة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.. كنت شاب وصل إلي نهاية الثلاثينات ولا يزال يحتفظ بحيويته ونشاطه، رغم تربعي علي عرش النجاح، في كافة المجالات التي خضتها، وارتدائي عباءة الفكر والثقافة التي لطالما تحدثت من خلالها في مختلف الندوات والمؤتمرات التي تمت دعوتي إليها في مختلف دول العالم، كما أن تلك الفترة شهدت أيضاً بداياتي الأدبية، فلم يمر علي صدور روايتي الأولي"العاشق" سوي خمسة أشهر ثم بدأت ألملم شتات أفكاري وأنسج خيوط خيالي للخروج بعمل أدبي جديد لا يقل في تميزه عن سابقه، حتي لا يظن القراء أن خطواتي تسير للوراء، وبهذه الطريقة أكون قد وقّعت شهادت وفاتي الأدبية، قبل أن أوقع شهادة ميلادي.

سأعود معكم مرة أخري إلي صلب الموضوع والحدث الرئيسي في تلك القصة، وهو دعوتي لمحاضرة الطلاب بالأقصر لمدة ثلاثة أشهر مع إمكانية إمداد الوقت في حالة رغبتي الجادة في ذلك.. فكرت كثيرًا في الأمر وكانت جميع المؤشرات في عقلي تصب في قناة واحدة، وهي ضرورة البقاء والاستقرار والابتعاد عن حياة السفر التي قد لا تجدي نفعاً، عدا مؤشر واحد فقط وهو الرغبة في الابتعاد لبعض الوقت حتى أهيئ لنفسي الهدوء والراحة الكافية لاتخاذ الخطوة الأولي في روايتي الجديدة.. وشجعني علي ذلك، أن الوقت آنذاك كان في مطلع الشتاء، وكما هو مشهود للأقصر باعتدال مناخها الشتوي بخلاف باقي محافظات مصر.. جال في عقلي العديد من الأفكار حول طقوس الكتابة المفضلة لدي وهي العمل وسط الطبيعة الخضراء، حيث مياه النيل التي تنساب في رفق، وأشجار التوت الفارعة علي طول شاطئيه تملئ شدقيها من مياهه، ناهيك عن همسات الورود وحفيف الأشجار ورقرقة المياه، وأصوات العصافير التي تشق الهدوء فتبدو كالموسيقى الرنانة الهادئة، ولا سيما بعض النسمات الرقيقة التي تزيل شوائب الروح وتحفظ صفائها وتمنع كدرها.

كانت الفكرة جنونية، حزمت حقائبي في الحال، وجمعت أوراق الكتابة المبعثرة هنا وهناك، ثم قصدت الأقصر في أول قطار.. فلم يخيب ظني ووجدت المدينة الجميلة تبدو كفتاة ترتدي أبهي ثيابها الصيفي في منتصف الشتاء، حتي ظنت أنني في بلد آخر لا ينتمي مناخه إلي مصر.

مرت الأيام في بدايتها مثيرة ورائعة، وبالفعل وجدت استجابة غير طبيعية من ذات خيالي الكامنة بداخل رأسي والتي ترجمتها في الفصول الأولي من الرواية، إلا أنه كان هناك خطر آخر لم أضعه في الحسبان، وهو خطر الوحدة التي تؤرث القلب وتلهب العقل بسوطها، خاصة في أوقات الفراغ حيث لا شيء يجب القيام به سوي الإنصات إلي صوت النفس الذي تحول إلي صوت مزعج ورتيب يكرر ما يقوله عشرات المرات.. حتى قررت أن أصاحب نفسي في جولة ميدانية داخل احدي القرى الريفية لأغسل حدقتاي بماء الطبيعة وأستعد لأستقبل الأفكار الوليدة من رحم التجربة.

وكانت البداية عند حقول القمح والبرسيم التي بدت في شكل سجادة كبيرة خضراء مترامية الأطراف، ثم مزارع البرتقال واليوسفي التي اصطفت بمساحات شاسعة علي جانبي احدي الطرق الزراعية، وبين هذا وذاك كان أفضل مشهد رأيته هو رؤية الفلاحين لأول مرة في حياتي عن قرب وهم يكدحون في الأرض منذ السادسة صباحاً لا يعرفون لغة سوي لغة لقمة العيش، ودفع ضريبة الحصول عليها، إلي أن يأو إلي فراشهم عند الثامنة مساءًا، لتتلقفهم زوجاتهم بالأيادي الناعمة والنظرات الحانية حتى يدفعون ضريبة نومهم أيضاً.. وكانت إشاعة الشمس قد طبعت بأصابعها العشر علي وجوههم حتي حولت لونها من الأبيض الناصع إلي الأحمر القاتم.

وصل عقرب ساعتي عند الثانية ظهرًا عندما أخذت استراحة قصيرة أسفل شجرة توت تميل برأسها إلي ترعة كبيرة، متباعدة الأطراف، تخرج من النيل لتسقي الأراضي البعيدة.. مر ما يقرب من نصف ساعة ذهبت في أثرها إلي إغفاءة طويلة، أظهرَت مدي التعب والإرهاق الذي ألم بي بعد طول مسير.. ثم استيقظت فجأة علي صوت جرو صغير ينبح بصوت مكتوم.. اقترب مني وراح يدفن جسده الضئيل بين كفاي.. داعبته بابتسامة صغيرة، وتركت راحتي تجوب ظهره.. حتى باغتني صوت أنثوي من الخلف:" أنا أسفه جدًا يا أستاذ هو دائما بيعمل كده كل ما يشوف حد غريب"، تصلبت فجأة ونظرت خلفي فوجدت بطلة القصة.. فتاة في منتصف العشرينات، ناصعة البياض تبدو وكأنها هربت من أشعة الشمس فلم تلحق بها أو أنها محصنة جيدًا ضد هذا العدو، مفسد البشرة، عيناها زرقاوان، ووجه يحمل بشاشة تنطق بكل آيات الجمال والمثالية، تتجلي الطبيعة الريفية بوضوح في ملامحها ونظراتها الخجلة.. ترتدي فستان أزرق انحصر عند أسفل قدميها وعند مرفقيها، ومنديل أزرق لم يفلح في السيطرة علي ثورة شعرها، فهربت احدي خصلاته وتدلت أعلي جبهتا، بدا كالحرير في ملمسه، وكالنجوم الساطعة وسط ليل داكن السواد في لونه.

لم أملك قدرة السيطرة علي نفسي أمام هذا الجمال الممزوج بالبساطة والتلقائية، رغم أنني جبت بلاد العالم، ورأيت ملكات جمال العالم ولكن لم يحدث ما حدث عندما رأيتها اليوم، قلت متلعثماً:" لا أبدًا ما حصلش حاجة، شكله لطيف جدًا"..

ردت :" ده حياتي، آسفة مرة ثانية علي إزعاجك".. اقتربت لتتلقفه من يدي شعرت بضيق المسافة بيني وبينها وكأنها نهاية العالم، توقف عقلي عن العمل، أين سيل الكلمات الرومانسية التي أفيض بها هناك وهناك؟، أين الكلمات الغزلية؟، إنها تقترب وسوف تختفي للأبد .. يجب أن أتحدث.. يجب أن أنقذ الموقف.. لماذا توقف لساني الآن؟.. 

اقتربت لتتلقفه من يدي، فلامست أصابعي أطراف أناملها، سرت قشعريرة في جسدي وكأنني ألمس امرأة لأول مرة في حياتي.. احمر وجهها خجلاً، وعلا جبهتها موجة غضب، ثم أخذت الجرو وتركت قدميها أدبار الرياح.. ناديتها واعتذرت لها بكل لغات الدنيا، ولكنها اختفت.. ظهرت فجأة لتسرق قلبي، وتنزعه من بين ضلوعي وتهرب، وشتان بين رجل أمير قلبه وعقله ورجل سُرق منه الاثنين.

مرت الأيام طويلة ومؤلمة.. لم أقدر علي حملها بعيدًا عن قلبي، وكأن القدر يعاقبنني بحبها..ذهبت إلي نفس المكان طوال الأيام التالية، دون أن أصدف برؤيتها، وكأنها ظهرت كالملاك ليأخذني من قعر الجحيم ليضعني لمدة ثانيتين في الجنة ثم يعيدني مرة أخري إلي ما هو أصعب من الجحيم.

حاولت إبعادها عن عقلي بتشويه صورتها داخل خيالي، ووضعتها في مقارنة مع أجمل الفتيات ممن غرقن في حبي، بينما قلبي عليهم تمنع.. فكرت في كونها فتاة ريفية ساذجة، لا تعلم عن الدنيا سوي ما هو داخل حدود قريتها.. أين هي ممن قابلتهم في مشارق الأرض ومغاربها وعلي درجات متفاوتة من الثقافة.. حتي أنها تبدو وكأنها لم تكمل تعليمها.. ثم أعود لأتذكر نظرات عينيها الصافيتين من كل خبث ولؤم، تلك النظرة التي لم أشاهدها في مخلوقة من قبل، بالإضافة إلي وداعتها وخجلها الغير مصطنع، ووجهها الملائكي، الذي لم تدنسه مستحضرات التجميل.. في النهاية فشلت المقارنة وفشلت حيلة نسيانها.

امتنعت عن الذهاب إلي الجامعة، وافترشت بحمي المرض بعد أن أصابتني فتاة سقطت عليِّ من أعلي القمر بسهام عينيها، ثم ابتلعتها الأرض فجأة..بعد مرور عدة أيام لم أري فيهما نور الشمس، استجمعت قواي وقررت العودة إلي القاهرة حتي أبتعد عن كل شيء يربطني بمكان لقائها.. وقبل السفر ذهبتُ لأودع سارقي وجلادي في محرابه المقدس وأمام قبلته.. وعندما وصلت إلي هناك وجدت شبحها يجلس في مكاني المعتاد.. ظننت أنها خرافات تعبث بعقلي.. إلا أنني عندما اقتربت وجدتها هي.. نعم هي، تداعب جروها.. "بشحمها ولحمها"، عادت الروح إلي جسدي مرة أخري وانفرجت أساريري.

وقفت خلفها مباشرة وقلت في ارتباك شديد أحل بي:"إزيك".. انتفضت فجأة وعاد الدماء يجري في وجهها، وهمت بالانصراف، إلا أنني تأبط يدها، وضغطُّ عليها في رفق، فاستسلمت فجأة عندما تطرقت بعيني وجابهت عينيها.:" من فضلك ما تمشيش"، اكتفت بالنظر إلي أسفل دون رد، فاستطرد:" أرجوكي.. انتي قتلتيني بحبك لما شفتك آخر مرة.. صدقيني لأول مرة في حياتي أحس بالحب وإن في شخص في الدنيا يستأهل أسلمه روحي من غير ما أفكر ثانية واحدة".

استعصمت بيدها الأخرى وضممتها إلي قلبي، دون أن يبدر منها أية معارضه، فقلت:" حبيبتي.. ما أقدرش أعيش من غيرك.. من فضلك ما تمشيش تاني.. أنتي طوق نجاتي ولو مشيتي هموت.. والله هموت".

رفعت عينيها إلي عيني، ونظرت بداخلهما بعمق ثم قالت:" أنا كمان بحبك وما أقدرش أعيش من غيرك".

لم أصدق ما قالته بالطبع.. ولا أعلم أين ومتى حدث كل ذلك ولكنها استطردت قائلة: "أنت كمان أسرت قلبي من أول نظرة وأول لمسة..بس كنت خايفه.. خايفه أسبح في بحيرة الحب لا أغرق فيها وأنا مش أدها.. طول عمري كنت مكتفيه إني أقف علي الشاطئ وأتابع العشاق من بعيد من غير ما أخد خطوة الاقتراب.. لكن معاك أنت كل حاجة أتغيرت.. حسيت بقوة خارجية هي اللي دفعتني لقدام وخلتني أحبك..حسيت انب ما بقيتش متحكمة في أعصابي وتصرفاتي حتى طريقة تفكيري.. ما عرفتش أشيل صورتك من خيالي.. ما أعرفتش ما أحبكش.. "

بعدها علمت أنها كانت تأتي إلي هذا المكان كل يوم وعندما تجدني جالس تكتفي بمتابعتي بناظريها من بعيد دون أن تخترق دائرة خوفها وتحدثني.. وعندما اختفيت في فترة مرضي ظنت أنني ذهبت ولن أعود.. ولكن القدر أراد أن يكافئنا فدفعنا إلي هذا اللقاء.

انتهت من كلامها فاحتضنتها بقوة، حتي كدت أن أعتصرها بين أذرعي.. ولم يمر سوي يومان حتي أصبحت زوجتي وعدت بها إلي القاهرة.. لم يصق أصدقائي وجمهوري من القراء أنني تزوجت بتلك الطريقة ومن فتاة ريفية لم تكمل تعليمها الثانوي، ولكن ردي عليهم جميعاً كان جملة واحدة وهي:

لأنها علمتني الحب.


 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة