الربان فيليبس أراد أن يضع سفينته على مفرق التاريخ والجغرافيا (صورة أرشيفية)
الربان فيليبس أراد أن يضع سفينته على مفرق التاريخ والجغرافيا (صورة أرشيفية)


حكايات| خدعة السفينة «واريمو».. قصة ربان تحايل على التاريخ والجغرافيا

محمود مصطفى

الإثنين، 14 يناير 2019 - 09:18 م

 

يجلس على كرسي في إحدى زوايا سطح سفينته التي تشق طريقها بهدوء عبر مياه المحيط الهادئ، ينفث دخان سيجارته الفاخرة، ليستعيد مع كل نفس منها ذكريات عام شارف على الانتهاء، وأحلام عام جديد يبدأ خلال ساعات، وعيناه ترمقان بين لحظة وأخرى شاب يقف أمام آلة السدس المدَّرجة، يحركها يمينًا ويسارًا، قبل أن يتوقف عن فعله فجأة؛ لتبدأ قصة حدث استثنائي امتدت تفاصيله لقرنين من الزمان في عرض البحر، ولكن أحداثه انتهت خلال ثانية واحدة!

 

 

هنا «إس إس واريمو»، سفينة تجارية أطلقت عام 1892 لخدمة الطريق البحري بين أستراليا ونيوزيلندا في الأصل، ولكن في وقت لاحق بدأت في نقل الركاب بين كندا وأستراليا، وخلال إحدى رحلاتها في الطريق من "فانكوفر" إلى أستراليا، وبينما قاربت عقارب الساعة على الـ12 منتصف ليل 30 ديسمبر من العام 1899، وقع حدث استثنائي ربما لم يتكرر في التاريخ.

 

«اليوم 30 ديسمبر 1899.. أتعرف ماذا يعني هذا؟»، قاطع مساعد أول الربان حديث الملاح الذي كان قد انتهى لتوه من رؤية النجوم لتحديد موقع السفينة والتي كانت عند خط عرض 0 درجة و31 دقيقه شمالاً، وخط طول 179 درجة و30 دقيقه غربا، قائلاً: «نحن إذًا على بعد أميال قليلة من تقاطع خط الاستواء مع خط التاريخ الدولي».

 

خدعة مُتقنة

 

في تلك الأثناء، ألقى ربان السفينة كابتن جون فيليبس بسيجارته، بعدما أدرك طبيعة الموقف، فقرر تحقيق أقصى استفادة ممكنة من فرصة حتمًا لن تتكرر في حياته المهنية مرة أخرى، وطالب 5 من الملاحين المتمرسين بمراقبة دقيقة لأشعة الشمس عندما كانت مرئية ومتابعة حركة النجوم ليلاً، وفحص موقع السفينة كل 3 ساعات، وقال إنه إذا غيّر مساره قليلا وعدل توقيت مروره من تلك المنطقة، فيمكنه أن ينفذ «خدعة مُتقنة» لا يمكن تكرارها إلا بعد 100 عام.

 

أعاد «فيليبس» بنفسه التحقق من موقع السفينة، وكان الطقس الهادئ والليلة الصافية في صالحه، ثم أجرى تعديلاً على مسار وسرعة "واريمو"، بحيث أنه في تمام الساعة الـ12 منتصف الليل، ترسو السفينة على خط الاستواء ويمكنها عبور خط الطول 180 وتحديدًا في النقطة التي يلتقي فيها مع خط التاريخ الدولي.

هكذا أصبح الجزء الأمامي من السفينة في نصف الكرة الجنوبي وفي منتصف فصل الصيف، فيما كان الجزء الخلفي منها في نصف الكرة الشمالي، وفي منتصف فصل الشتاء، وتحديدًا في 30 ديسمبر 1899، في حين أن ركاب النصف الأمامي كانوا قد تخطوا يومهم ليكونوا في 1 يناير 1900، لتكون هذه السفينة الواحدة ليست فقط في يومين مختلفين، وشهرين مختلفين، وعامين مختلفتين، وموسمين مختلفين، ونصفي كرة مختلفين، ولكن أيضا في قرنين مختلفين في ذات اللحظة.

 

اختفاء يوم كامل

 

لكن ماذا حدث في 31 ديسمبر 1899؟ .. السفينة كانت في طريقها من كندا إلى أستراليا، وبالتالي كانت تسافر غربًا، وفي أي وقت تجتاز فيه خط التاريخ الدولي باتجاه الغرب، فإنك تتحرك بشكل تلقائي إلى الأمام لمدة 24 ساعة، نظرًا لأن المناطق الزمنية على جانبي خط التاريخ الدولي تختلف 24 ساعة، بحيث إذا كانت الساعة - على سبيل المثال - 9 صباحًا يوم الاثنين عند عبور خط التاريخ الدولي، فسيكون الوقت والتاريخ على الجانب الآخر هو التاسعة صباح الثلاثاء، وتخسر 24 ساعة.

 

وفي حالة «واريمو»، عبرت السفينة خط التاريخ الدولي بالضبط عند الساعة (صفر) أو عند منتصف الليل، عندما تحول اليوم نفسه إلى آخر جديد؛ لذا عندما دقت عقارب الساعة 0 و0 دقيقة وثانية واحدة في 31 ديسمبر 1899، انتقلت السفينة إلى منطقة زمنية جديدة وتم نقلها على الفور 24 ساعة في المستقبل، أي 0 ساعة و0 دقيقة وثانية واحدة في 1 يناير 1900، وبالتالي كان بالنسبة لركاب السفينة، يوم 31 ديسمبر لا يمثل سوى جزء من الثانية.

 

الحساب بهذه الطريقة قد يكون صحيح تمامًا، لكن ما أثار الكثير من الشكوك حول حقيقة الواقعة، أنه لم يتم الحديث عنه إلا بعد مرور نحو 42 عامًا على وقوعها، في صحيفة كندية تدعى «The Ottawa Journal»، وجاء في نص ما كتبته الصحيفة: «في مكانين، قرنين، في وقت واحد.. هل يمكن أن تكون السفينة في مكانين في نفس الوقت؟.. في ظل ظروف معينة، يكون الجواب نعم، كان الكابتن جون دوثي سيدني فيليبس ربان السفينة الذي أدار هذا الإنجاز غير العادي للملاحة، حيث قاد بطولات في فانكوفر وأسترالي».

 

وهناك أشكال أخرى من الوثائق؛ مثل نسخ سجل السفينة، والتقارير المتزامنة للحدث، والحسابات من طاقم وركاب آخرين في «واريمو»، من شأنه أن يقطع الشك باليقين نحو التحقق من صحة الحسابات وأن السفينة بالفعل كانت في المنطقة الصحيحة في الوقت المناسب.           

السُدس «كلمة السر»

ما أثار التساؤلات أيضًا، دقة حساب الربان لمسار وسرعة السفينة ووضعها في المكان الصحيح، وعما إذا كان يمكن له تنفيذ خطته أو «خدعته المتقنة» – كما أطلق عليها- بهذه الدقة، في ظل عدم توافر التكنولوجيا الملاحية في ذلك الوقت.

 

ولكن ربما ما لا يدركه هؤلاء، أنه قبل الملاحة عبر الأقمار الصناعية، كان البحارة يستخدمون جهازًا لقراءة الزوايا بين النجوم أو الشمس والأفق، ومن ثم حساب موقع السفينة يطلق عليه «السُدُس»، وهو آلة فلكية قديمة كانت تستخدم لقياس الزاوية بين جسمين أو نجمين، وهو أمر مهم لتحديد خطوط الطول الجغرافية، وكان يستعمل لأغراض الملاحة البحرية، ويطلق عليها هذا الاسم نسبة لشكلها الذي يشبه السدس من الدائرة تقريبًا، ويسند إطار السدسية قوسًا مدرَّجًا، وهو ذراع دليلي متحرّك يُمثل نصف قطر الدائرة ومرآتين وتلسكوبًا صغيرًا. تكون إحدى المرآتين ثابتة وتسمى مرآة الأفق. أما المرآة الثانية، فهي مربوطة مع دليل المؤشر وتسمى مرآة الدليل. ويقوم التلسكوب بتوضيح خط الأفق.

طريقة القياس بالسُدس

 

خداع الركاب

 

يقول «فيليبس» عندما تحدث عن ذلك اليوم في وقت لاحق، إنه لم يسمع أن تلك الواقعة حدثت من قبل، وإذا حدث وتكررت مع سفينة أخرى في ذات الوضع، فلن يكون ذلك قبل عامي 1999 – 2000.

 

ويضيف: «علاوة على ذلك، تم خداع الركاب من الاحتفال بليلة رأس السنة، فيوم 31 ديسمبر 1899 اختفى من حياتهم إلى الأب»، مشيرا إلى أفهم بالفعل أول من استقبل القرن الجديد، وكل ما كان عليهم القيام به هو الانتقال من الخلف إلى الأمام.

 

رحلة النهاية

 

رحلة «واريمو» اللاحقة لم تكن هادئة، فبعد أن كانت مجرد سفينة ركاب لأكثر من عقدين، كُلفت بنقل القوات في الحرب العالمية الأولى، وأثناء إحدى رحلاتها عبر البحر المتوسط في 17 مايو 1918، انفجرت وأضحت حطامًا إثر اصطدامها بسفينة حربية فرنسية عملاقة، مخلفة الكثير من الضحايا.

 

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة