ثورة 1919
ثورة 1919


ثورة 1919.. يحيا الهلال مع الصليب

لمياء متولي- دعاء سامي

الأربعاء، 20 مارس 2019 - 11:30 م

 

- الوحدة الوطنية تهزم الاحتلال والمســــــاجد تتحد مع الكنائس لدعم الثورة


إذا كان لكل ثورة «أيقونة» تميزها وترمز لها فإن الوحدة الوطنية، التى تجسدت فى شعار «الدين لله والوطن للجميع»، والعلم الذى يتعانق فيه الهلال مع الصليب، هو أيقونة ثورة 1919 دون منازع، ذلك أن هذه الثورة وأحداثها قد نجحت فى إجهاض مساعى الاحتلال البريطانى لزرع الفرقة والفتنة بين المسلمين والأقباط، التى عمل على إذكائها طيلة سنوات وجوده على أرض المحروسة.


وبالعودة لتجليات الوحدة بين المسلمين والأقباط خلال ثورة 1919، نقول إنها زادت تألقا فى شهر رمضان الأول بعد هذه الثورة، الذى هل بعد اندلاعها بنحو شهرين ونصف الشهر، فمن مظاهر هذه الوحدة، اتفاق الأقباط على أن يتوجهوا للمساجد مهنئين بقدوم شهر الصوم فى مختلف بقاع الجمهورية فى توقيت واحد، فيعودوا من هذه الزيارة متفقين مع إخوانهم المسلمين على أداء صلاة مشتركة فى جميع مساجد مصر وكنائسها فى توقيت واحد، والأروع أن ختم الصلاة سيكون أيضا بدعاء صيغته واحدة.. وفى هذا السياق قصدت وفود من الأقباط فى العاصمة والثغر وبنادر الأقاليم الجوامع الإسلامية لتهنئة إخوانهم المسلمين بحلول شهر الصوم.. وكان أكبر هذه الوفود وفد (الشبيبة القبطية) فى الأزهر، فقد سار فى موكب مؤلف من 50 عربة إلى الأزهر الشريف.. واستقبلهم على بابه جماعة من كبار العلماء.. وافتتح الحفلة الشيخ الزنكلونى فشكر الحاضرين وقال لهم إن أفضل ليلة فى ليالى رمضان هى ليلة القدر.. ونحن نرى ليلتنا الحاضرة هى الليلة الفضلى الثانية، لتشريف إخوتنا الأقباط هذا المكان.

ليست الصلوات المشتركة هى مظهر وحدة المسلمين والأقباط، فقد اشترك جماعة من الشبيبة القبطية بالإسكندرية فى تقديم هدية إلى إخوانهم المسلمين للدلائل على عظيم محبتهم.. وهذه الهدية علم من الحرير الأبيض المزركش بالفضة الخالصة، وكتب فى أعلاه بالحرير الأصفر (علم الاتحاد المصرى)، بجانب ثلاثة أهلة من الحرير الأخضر، وفى جوف كل هلال منها صليب من الحرير الأحمر، كتب أسفله «رمضان 1373، بشنس 1953»، وهو محمول على عمود أفقى من الخشب الثمين.. محلى طرفاه بحليتين من الفضة على شكل الحربة مثبتة على سارية من الخشب الثمين، مكسوة بالحرير الأبيض، وطرزت بخيوط الذهب والفضة، مما زاده جمالا. كما قام وفد الشبيبة القبطية حملوا هذا العلم وساروا به إلى جامع أبى العباس وقت صلاة التراويح، وكان بانتظارهم جمهور كبير من العلماء والطلبة والتجار، وبعد أن استراحوا وقف سليمان أفندى أنطون وبيده العلم، وقال مخاطبا الشيخ اللبان: «يا صاحب الفضيلة.. تقدم الطائفة القبطية إلى أختها طائفة المسلمين بمناسبة هذا الشهر المبارك علم الاتحاد المصرى.. وإنى سعيد بأن أقدمه نائبا عن الطائفة القبطية إلى إخواننا المسلمين ممثلين فى شخصكم الكريم».
القمص سيرجيوس
قس وخطيب وثائر وطنى يُعد نموذجاً حياً لمعنى الوحدة الوطنية، لم يعبأ بمنصب ولم يخف من سلطان، عاش حاملاً رأسه فوق يديه ووقف فى وجه الإنجليز فى مصر والسودان وخطب فى الأزهر وفى مسجد ابن طولون وفى العديد من مساجد مصر وألهب مشاعر المصريين جميعاً بما وهبه الله من موهبة الخطابة وبلاغة اللسان، إنه القمص سرجيوس المولود بـ«جرجا» فى سوهاج سنة 1882م، ورُسِمَ قساً على بلده «ملوى» باسم القس ملطى سرجيوس، ثم عُيِّن وكيلاً لمطرانية أسيوط فى 30 أكتوبر سنة 1907م. اشتهر بغيرته على دينه، وألمه الشديد على مجد أمته الزائل، وكان رجلاً ثائراً على كل ما لا يُرضيه، ولكن ثورته اقتصرت فى بداية حياته على تمسكه الشديد بعقيدته.
أصدر الأب سرجيوس مجلة «المنارة المرقسية» فى سبتمبر سنة 1912م فى مدينة الخرطوم عندما كان وكيلاً لمطرانيتها، وكان هدف المجلة دعوة الأقباط والمسلمين إلى التضامن والتآخى، وتقويم الاعوجاج الذى تأصل فى الأقباط ككنيسة، والضرب عن العادات التى أضلَّت الشعب وأفسدت ما ورثناه من الآباء القديسين، غضب عليه الإنجليز وأمروا بعودته إلى مصر فى أربع وعشرين ساعة، وكانت آخر كلماته للمدير الإنجليزى: «إننى سواء كنت فى السودان أو فى مصر لن أكف عن النضال وإثارة الشعب ضدكم إلى أن تتحرر بلادى من وجودكم».
وفى ثورة سنة 1919، برز القمص سرجيوس وسط الثائرين، فكان أشبه بعبد الله النديم فى الثورة العرابية، إذ وهبه الله لساناً فصيحاً يهز أوتار القلوب إلى حد جعل سعد زغلول يطلق عليه لقب خطيب مصر أو خطيب الثورة الأول.
عاش فى الأزهر لمدة ثلاثة شهور كاملة يخطب فى الليل والنهار مرتقياً المنبر، معلناً أنه مصرى أولاً ومصرى ثانياً ومصرى ثالثاً، وأن الوطن لا يعرف مسلماً ولا قبطياً، بل مجاهدون فقط دون تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء، وقدم الدليل للمستمعين إليه بوقفته أمامهم بعمامته السوداء، وهو نفسه الشخصية التى ظهرت فى أحد أفلام حسن الإمام «ثلاثية نجيب محفوظ» معتلياً المنبر يخطب فى المسلمين مؤكداً الوحدة الوطنية أثناء ثورة 1919.
ذُكِر عنه أنه ذات مرة وقف فى ميدان الأوبرا يخطب فى الجماهير المتزاحمة، وفى أثناء خطبته تقدم نحوه جندى إنجليزى شاهراً مسدسه فى وجهه، فهتف الجميع: «حاسب يا أبونا، حايموتك»، وفى هدوء أجاب أبونا: «ومتى كنا نحن المصريين نخاف الموت!! دعوه يُريق دمائى لتروى أرض وطنى التى ارتوت بدماء آلاف الشهداء. دعوه يقتلنى ليشهد العالم كيف يعتدى الإنجليز على رجال الدين».
وأمام ثباته واستمراره فى خطابه تراجع الجندى عن قتله، مرة أخرى وقف هو والشيخ القاياتى يتناوبان الخطابة من فوق منبر جامع ابن طولون، فلما ضاق بهما الإنجليز ذرعاً أمروا بنفيهما معاً إلى رفح فى سيناء.. وكانا فى منفاهما يتحدثان عن مصر، ويتغنيان بأناشيد حبهما لها.
كذلك انشغل فى المنفى بكتابة الخطابات، وإرسالها إلى المندوب السامى البريطانى.. يندد فيها بسياسة الإنجليز، ويعيب عليهم غطرستهم وحماقتهم فى معاملة الوطنيين، وعلى الأخص فى معاملة قادتهم وزعمائهم.
وقضى الأب سرجيوس والشيخ القاياتى ثمانين يوماً فى هذا المنفى، وبعد ذلك ظل يخطب فى كل مكان فى المساجد والكنائس والأندية والمحافل وفى الشوارع والميادين، كتب فى الدفاع عن الإيمان أما فيما يتعلق بالكنيسة، فبالإضافة إلى مجلة «المنارة المصرية» أصدر عدداً كبيراً من الكتب التى دافع فيها عن الإيمان المسيحى، التى رد فيها على الكثير من الأسئلة والافتراءات، ولم يكتفِ فى كتبه بتقديم الأدلة من الكتاب المقدس بل استند أيضاً إلى الكثير من الآيات القرآنية واقتباسات من كبار المفكرين المسلمين، كذلك كتب الكثير من المقالات فى مجلات غير مجلته، كان يوقع عليها باسم «يونس المهموز».
ظل القمص مرقس سرجيوس زوبعة عاصفة إلى آخر نسمة فى حياته بالرغم من شيخوخته، إذ وافته المنية عن إحدى وثمانين سنة، وكان ذلك فى 5 سبتمبر سنة 1964. وأبت الجماهير الشعبية التى اشتركت فى تشييع جنازته إلا أن تحمل نعشه على الأعناق، ثم أبدت الحكومة اعترافها بجهاده الوطنى بأن أطلقت اسمه على أحد شوارع مصر الجديدة بالقاهرة.
 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة