صورة موضوعية
صورة موضوعية


«المفتي السابق» يفرق بين الصلاة في القبور ومساجد الأضرحة

إسراء كارم

الأحد، 09 يونيو 2019 - 06:39 م

تعرضت دار الإفتاء المصرية لهجوم عنيف بعد نشرها لفتوى تفيد بأن الصلاة في المساجد التي بها أضرحة مستحب، والقول ببطلانها باطل.


وفي هذه المسألة فرق مفتي الديار السابق الدكتور علي جمعة، بين الصلاة في القبور أو اتخاذها مسجدًا، وبين الصلاة في المساجد التي بها أضرحة.


وقال إن قضية المساجد التي بها قبور، قضية فقهية فرعية استغلها الجهال ومبتغو الفتنة أسوأ استغلال حيث جعلوها سببًا في التفريق بين المسلمين، والتنابذ بالألقاب فذهب هذا يسب هذا ويقول إنه قبوري، أو مبتدع، أو مشرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونحن نجمع شتات الكلام في هذه المسألة عسى الله أن يفتح بهذا الكلام أعينًا عميًا، وآذنًا صمًا.


وأضاف أن هناك خلطًا بين أمور متفرقة أحدث لبسًا في التعامل مع هذه المسألة، وجعلنا كلما تكلمنا فيها لا نصل إلى شيء، ولكننا سنوضح هنا تلك الأمور، ونفرق بينها، فالصلاة في القبور ليست هي الصلاة بالمسجد الذي به ضريح، وليست هي اتخاذ القبر مسجدًا؛ ولذلك نفرق بين ثلاثة أمور: 


أولاً : الصلاة في القبور :
القبر: مدفن الإنسان، يقال :قبره يقبره ويقبره، قبرًا ومقبرًا: دفنه، وأقبره: جعل له قبرا، والمقبرة، بفتح الباء وضمها: موضع القبور أي موضع دفن الموتى، والقابر: الدافن بيده. 


والقبر محترم شرعًا توقيرًا للميت، ومن ثم اتفق الفقهاء على كراهة وطء القبر والمشي عليه، لما ثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توطأ القبور»، لكن المالكية خصوا الكراهة بما إذا كان مسنمًا، كما استثنى الشافعية والحنابلة وطء القبر للحاجة من الكراهة، كما إذا كان لا يصل إلى قبر ميته إلا بوطء قبر آخر.


أما عن حكم الصلاة في المقابر فذهب الحنفية إلى أنه تكره الصلاة في المقبرة، وبه قال الثوري والأوزاعي، لأنها مظان النجاسة، ولأنه تشبه باليهود، إلا إذا كان في المقبرة موضع أعد للصلاة ولا قبر ولا نجاسة فلا بأس.

 

وقال المالكية: تجوز الصلاة بمقبرة عامرة كانت أو دارسة، منبوشة أم لا، لمسلم كانت أو لمشرك، وفصل الشافعية الكلام فقالوا: لا تصح الصلاة في المقبرة التي تحقق نبشها بلا خلاف في المذهب، لأنه قد اختلط بالأرض صديد الموتى، هذا إذا لم يبسط تحته شيء، وإن بسط تحته شيء تكره، وأما إن تحقق عدم نبشها صحت الصلاة بلا خلاف؛ لأن الجزء الذي باشره بالصلاة طاهر، ولكنها مكروهة كراهة تنزيه؛ لأنها مدفن النجاسة.


 وأما إن شك في نبشها فقولان؛ أصحهما: تصح الصلاة مع الكراهة؛ لأن الأصل طهارة الأرض فلا يحكم بنجاستها بالشك، وفي مقابل الأصح: لا تصح الصلاة؛ لأن الأصل بقاء الفرض في ذمته، وهو يشك في إسقاطه، والفرض لا يسقط بالشك.  


وقال الحنابلة: لا تصح الصلاة في المقبرة قديمة كانت أو حديثة، تكرر نبشها أو لا، ولا يمنع من الصلاة قبر ولا قبران؛ لأنه لا يتناولها اسم المقبرة وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدًا، وروي عنهم أن كل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه، ونصوا على أنه لا يمنع من الصلاة ما دفن بداره ولو زاد على ثلاثة قبور، لأنه ليس بمقبرة.


هذا بشأن كلام الفقهاء في مسألة الصلاة في المقبرة، والمقابر دون التعرض لمسألة الصلاة في المساجد التي يجاورها الأضرحة.


ثانيا: الصلاة في المسجد الذي به ضريح:
والصلاة بالمسجد الذي به ضريح أحد الأنبياء - عليهم السلام - أو الصالحين، فهي صحيحة، ومشروعة، وقد تصل إلى درجة الاستحباب ويدل على هذا الحكم عدة أدلة من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وفعل الصحابة، وإجماع الأمة العملي.


فمن القرآن الكريم قوله تعالى: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}، ووجه الاستدلال بالآية أنّها أشارت إلى قصّة أصحاب الكهف، حينما عثر عليهم الناس فقال بعضهم: نبني عليهم بُنيانًا، وقال آخرون: لنتّخذنّ عليهم مسجدًا.


والسياق يدل على أن الأوّل: قول المشركين، والثاني: قول الموحّدين، والآية طرحت القولين دون استنكار، ولو كان فيهما شيء من الباطل لكان من المناسب أن تشير إليه وتدل على بطلانه بقرينة ما، وتقريرها للقولين يدل على إمضاء الشريعة لهما، بل إنّها طرحت قول الموحدين بسياق يفيد المدح، وذلك بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحدين قاطعًا «لنتّخذنّ» نابعًا من رؤية إيمانية، فليس المطلوب عندهم مجرد البناء، وإنّما المطلوب هو المسجد، وهذا القول يدلّ على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة.


ومن السنة حديث أبي بصير الذي رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم قالا : «إن أبا بصير انفلت من المشركين بعد صلح الحديبية، وذهب إلى سيف البحر، ولحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو، أنفلت من المشركين أيضا، ولحق بهم أناس من المسلمين حتى بلغوا ثلاثمائة وكان يصلي بهم أبو بصير. 


وكان يقول : الله العلي الأكبر ** من ينصر الله ينصر، فلما لحق به أبو جندل، كان يؤمهم، وكان لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها، وقتلوا أصحابها، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم، إلا أرسل إليهم، فمن أتاك منهم فهو آمن، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهم من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم، فقدم كتاب رسول صلى الله عليه وسلم على أبي جندل، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرأه، فدفنه أبو جندل مكانه، وبنى على قبره مسجدًا ».


أما فعل الصحابة رضى الله عنهم يتضح في موقف دفن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلافهم فيه، وهو ما حكاه الإمام مالك رضي الله عنه عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكان دفن الحبيب صلى الله عليه وسلم فقال: «فقال ناس: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: يدفن بالبقيع، فجاء أبو بكر الصديق فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه فحفر له فيه »ووجه الاستدلال أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقترحوا أن يدفن صلى الله عليه وسلم عند المنبر وهو داخل المسجد قطعًا، ولم ينكر عليهم أحد هذا الاقتراح، بل إن أبا بكر رضي الله عنه اعترض على هذا الاقتراح ليس لحرمة دفنه صلى الله عليه وسلم في المسجد، وإنما تطبيقًا لأمره صلى الله عليه وسلم بأن يدفن في مكان قبض روحه الشريف صلى الله عليه وسلم.


وبتأملنا إلى دفنه صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان نجد أنه صلى الله عليه وسلم قُبض في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها، وهذه الحجرة كانت متصلة بالمسجد الذي يصلي فيه المسلمين، فوضع الحجرة بالنسبة للمسجد كان – تقريبًا - هو نفس وضع المساجد المتصلة بحجرة فيها ضريح لأحد الأولياء في زماننا، بأن يكون ضريحه متصل بالمسجد والناس يصلون في صحن المسجد بالخارج.


وهناك من يعترض على هذا الكلام ويقول: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، والرد عليه أن الخصوصية في الأحكام بالنبي صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى دليل، والأصل أن الحكم عام ما لم يرد دليل يثبت الخصوصية، ولا دليل، فبطلت الخصوصية المزعومة في هذا الموطن.

 

ونزولاً على قول الخصم من أن هذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم - وهو باطل كما بينا - فالجواب أن هذه الحجرة دفن فيها سيدنا أبو بكر رضى الله عنه ، ومن بعده سيدنا عمر رضى الله عنه ، والحجرة متصلة بالمسجد، فهل الخصوصية انسحبت إلى أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أم ماذا ؟ والصحابة يصلون في المسجد المتصل بهذه الحجرة التي بها ثلاثة قبور، والسيدة عائشة رضي الله عنها تعيش في هذه الحجرة، وتصلي فيها صلواتها المفروضة والمندوبة، ألا يعد هذا فعل الصحابة وإجماع عملي لهم.


ومن إجماع الأمة الفعلي وإقرار علمائها لذلك، صلاة المسلمين سلفاً وخلفاً في مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمساجد التي بها أضرحة بغير نكير، وإقرار العلماء من لدن الفقهاء السبعة بالمدينة الذين وافقوا على إدخال الحجرة الشريفة إلى المسجد النبوي، وهي بها ثلاثة قبور، ولم يعترض منهم إلا سعيد بن المسيب رضى الله عنه ولم يكن اعتراضه لأنه يرى حرمة الصلاة في المساجد التي بها قبور، وإنما اعترض؛ لأنه يريد أن تبقى حجرات النبي صلى الله عليه وسلم كما هي يطلع عليها المسلمون؛ حتى يزهدوا في الدنيا، ويعلموا كيف كان يعيش نبيهم صلى الله عليه وسلم.


ثالثا: اتخاذ القبر مسجدًا ليس هو المسجد الذي به ضريح:
واتخاذ القبر مسجدًا الذي ورد فيه النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو ما ذكرنا من بناء المسجد بجوار ضريح متصل به أو منفصل عنه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».


فعلماء الأمة لم يفهموا من هذا الحديث أن المقصود النهي عن اتصال المسجد بضريح نبي أو صالح، وإنما فسروا اتخاذ القبر مسجدًا التفسير الصحيح، وهو أن يُجعل القبر نفسه مكانًا للسجود، ويسجد عليه الساجد لمن في القبر عبادة له، كما فعل اليهود والنصارى حيث قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.


فهذا هو معنى السجود الذي استوجب اللعن، أو جعل القبر قبلة دون القبلة المشروعة، كما يفعل أهل الكتاب؛ حيث يتوجهون بالصلاة إلى قبور أحبارهم ورهبانهم، فتلك الصور هي التي فهمها علماء الأمة من النهي من اتخاذ القبور مساجد.


وينبغي على المسلمين أن يعرفوا الصورة المنهي عنها، لا أن ينظروا إلى ما فعله المسلمون في مساجدهم، ثم يقولون إن الحديث ورد في المسلمين، فهذا فعل الخوارج والعياذ بالله، كما قال ابن عمر رضي الله عنه ذهبوا إلى آيات نزلت في المشركين، فجعلوها في المسلمين، فليست هناك كنيسة للنصارى ولا معبد لليهود على هيئة مساجد المسلمين التي بها أضرحة، والتي يصر بعضهم أن الحديث جاء في هذه الصورة.


الخلاصة:
ومما سبق فبيان حكم الصلاة بالمسجد الذي به ضريح يكون، إذا كان القبر في مكان منعزل عن المسجد، أي لا يصلى فيه، فالصلاة في المسجد الذي يجاوره صحيحة، ولا حرمة ولا كراهة فيها، أما إذا كان القبر في داخل المسجد، فإن الصلاة باطلة ومحرمة على مذهب أحمد بن حنبل، جائزة وصحيحة عند الأئمة الثلاثة، غاية الأمر أنهم قالوا: يكره أن يكون القبر أمام المصلى، لما فيه من التشبه بالصلاة إليه.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة