الباحث محمود ثروت
الباحث محمود ثروت


حوار| الباحث محمد ثروت: قصتي مع زويل بدأت في «جنيف».. وانتهت بالدموع في «كالتك»

حازم بدر

الجمعة، 02 أغسطس 2019 - 01:22 ص

 

أحيانا ما تقود مصادفة لم يتم الترتيب لها إلى تغيير مسار الحياة، وقد كان د.محمد ثروت حسن، استاذ الفيزياء، والباحث المصرى الوحيد السابق فى الفريق البحثى للعالم المصرى الراحل د.أحمد زويل، على موعد مع واحدة من هذه المصادفات التى حولته قبل نحو سبع سنوات من باحث فى معهد «ماكس بلانك» فى ألمانيا، إلى باحث فى الفريق البحثى للدكتور زويل. وخلال ثلاث سنوات قضاها د.حسن فى مدرسة د.زويل البحثية تعلم منه الكثير على المستوى العلمى والإنسانى، ليكمل بعد رحيله مسيرة العالم الراحل البحثية فى مجال اختصار الزمن من «الفيمتو ثانية» إلى «الأتو ثانية»، وهو الإنجاز الذى يكتمل بإدخال هذا المدى الزمنى الجديد إلى الميكرسكوب رباعى الأبعاد، لتحقيق انجاز لا يقل عما حققه العالم الراحل، وكان سببا فى فوزه بجائزة نوبل.


وفى حوار عبر الهاتف مع «الأخبار»، بالتزامن مع الذكرى الثالثة لرحيل د.زويل التى حلت يوم الجمعة الماضي، يحكى د.حسن، الذى يشغل حاليا منصب مدير مركز التصوير والميكروسكوب بجامعة العلوم والتكنولوجيا فى مدينة زويل، تفاصيل المصادفة التى قادته للانضمام لفريق العالم الراحل، وتفاصيل الإنجاز البحثى الذى يحقق به إحدى أمنياته، ويحدد أهم الدروس التى تعلمها فى مدرسته البحثية، ويكشف عن الحلم الذى توفى د.زويل قبل رؤيته واقعا يتجسد أمامه.. وإلى نص الحوار.

< من خلال ما كتبته عن د. زويل فى كتاب د. أحمد عكاشة الأخير عن حياة العالم الراحل، يبدو لى أن استحضارك لمواقفه وكلماته جاء بطريقة تبدو عاطفية على عكس ما هو معتاد عن العلماء الذين ينظر لهم على أنهم ذوى مشاعر جامدة، لاسيما الذين انخرطوا فى الحياة الغربية ؟


- يطلق ضحكة عالية قبل أن يقول: سؤالك هذا أعادنى إلى موقف حدث عام 2015، عندما نشر لى أول بحث مع د.زويل، حيث أمسكت بالورقة التى تحمل أسماء المشاركين بالبحث وبها أسمى بجوار اسم د.زويل، وأخذت أنظر إليها نظرات حملت مشاعر الفخر بشكل لفت انتباه سكرتيرة العالم الراحل التى قالت لى : « انت تشعرنى وكأن اسمك يظهر لأول مرة على بحث علمي، مع أنه سبق وصدرت العديد من الأوراق البحثية التى تحمل اسمك»، فكان ردى السريع عليها ان هذه الورقة تحمل اسمى بجوار د.زويل وهذا كان أول أحلامى منذ التحاقى بكلية العلوم، وأخذت أحكى لها قيمة د.زويل بالنسبة لي، وأنى التحقت بكلية العلوم بعد حصولى على الثانوية العامة عام 1999، لأن قصته كانت ملهمة لي.
وبينما كنت أحكى لها بكل حماس، لم أكن أعلم بوجود د.زويل فى المكتب، فاستدعانى بعد ان استمع لتفاصيل هذا الحوار وضحك ضحكته الشهيرة قائلا بلهجة أبناء البحيرة: « كويس يا محمد لسه عندك شوية عاطفة رغم عملك فى ألمانيا».

من ماكس بلانك إلى كالتك
 

< وهل كنت تعمل فى ألمانيا قبل التحاقك بفريق د.زويل البحثي؟
- عملت لفترة فى معهد ماكس بلانك بألمانيا قبل الانضمام للمجموعة البحثية للدكتور زويل فى 2013.


< وكيف جاء التحول من ماكس بلانك بألمانيا إلى جامعة كالتك بأمريكا حيث أصبحت ضمن الفريق البحثى للدكتور زويل؟
- يطلق تنهيدة عالية، أعقبها بقوله بحماس تستشعره فى نبرة صوته: قصة هذا التحول تعود إلى أحد أيام الجمعة فى شهر يوليو من عام 2012 حيث دعيت إلى مؤتمر فى جنيف بسويسرا لإلقاء محاضرة عن أحد أبحاث الدكتوراة الخاصة بي، وقد كان د.زويل مدعو لإلقاء المحاضرة الختامية فى هذا المؤتمر، فانتهزت تلك الفرصة وأرسلت له رسالة عبر البريد الإلكترونى أخبره فيها برغبتى فى أن يحضر المحاضرة الخاصة بي، لكنه لم يحضر، لكنى قابلته فى نفس اليوم فتقدمت لمصافحته وعرفته بنفسي، فاعتذر عن عدم حضور المحاضرة لوصول طائرته فى وقت متأخر من الليل، وحاجته لأخذ قسط من الراحة قبل حضور فعاليات المؤتمر، ودعانى لتناول فنجان من القهوة معه، وأخذنا نتحدث لمدة تقارب الساعتين فى العلم، وفى نهاية اللقاء طلب منى أن أرسل له السيرة الذاتية الخاصة بي، وقد فعلت.


ويستطرد: بعد عودتى إلى ألمانيا فوجئت برئيس الفريق البحثى الذى كنت أعمل معه، وكان صديقا شخصيا للدكتور زويل يستدعينى ويسألنى : هل قدمت أوراقك للعمل فى جامعة كالتك؟، فقلت له لا، فقال لى أن « الدكتور زويل يطلبك للعمل معه، وانا لن أستطيع تركك قبل عامين، لأنك عضو مهم فى فريقى البحثي، ويوجد العديد من المشاريع البحثية التى يتعين علينا انجازها».


< بعد عامين؟.. إذن أنت أصبحت عضوا بفريق د.زويل البحثى فى 2014؟
- قبل هذا التاريخ بعام، فما حدث بعد ذلك ان الدكتور زويل ارسل لى بريدا الكترونيا يخبرنى فيه باختيارى للانضمام إلى مجموعته البحثية، ووقتها كنت فى حيرة بين تمسك استاذى فى معهد ماكس بلانك وبين رغبة د.زويل فى ضمى لفريقه، وحسمت اختيارى بعد اتصال تلقيته من سكرتيرة د.زويل تخبرنى برغبته فى الحديث معي، فبدأ معى الحديث بلهجته المصرية المميزة قائلا : « ليه بقى يا دكتور محمد مش عايز تشتغل معانا «، فلم يكن أمامى سوى تلبية هذه الدعوة، وأصبحت عضوا فى الفريق البحثى الخاص بالدكتور زويل فى 2013، والذى يضم جنسيات مختلفة وكنت المصرى الوحيد بالفريق.


جدل علمي
 

< وهل كونك المصرى الوحيد فى فريق د.زويل منحك بعض المزايا عن الآخرين؟
- لم ينتظر اكمال السؤال وخرجت الكلمات من فمه سريعة: عملى فى ألمانيا فى مكان هام مثل ماكس بلانك أثر كثيرا فى شخصيتى البحثية، وأصبحت « عملى جدا « وغير مجامل، ولذلك كنت دائما ما أدخل فى جدل علمى مع د.زويل، بينما كان باقى أعضاء الفريق يؤمنون دائما على كلامه، والدكتور زويل كان يرحب دوما بهذه المناقشات العلمية، طالما أن الطرف الآخر يتحدث على أساس علمي، فهذه كانت هى العلاقة مع د.زويل بعيدا عن كونى مصريا أو من أى جنسية أخرى.

< فهمت الآن مغزى تعليق د.زويل على حوارك مع السكرتيرة ؟
- يضحك قبل أن يقول: هو بالفعل كان ينظر لى على أنى شخص عملي، وكان دائما ما ينتظر تعليقاتي، لأنى لا أجيد المجاملات.

 

< حديثك يشعرنى أن العلاقة بينكما كانت علاقة عمل فقط، خالية من أى جوانب إنسانية واجتماعية ؟
- يصمت لوهلة قبل أن يقول: ولماذا تقول ذلك، الدكتور زويل بالنسبة لى كان مثل الوالد، وجاءت اصابته بمرض السرطان، لتزيد من هذه المساحة الإنسانية فى العلاقة، حيث حدثت مواقف خلال فترة إصابته بالمرض، جعلتنى أقترب منه انسانيا أكثر وأكثر.
لحظات إنسانية

< هل يمكن أن تذكر بعضها؟
- تتبدل نبرة صوته لتميل إلى الحزن، وهو يقول: مع بلوغه سن الـ70 عاما، أقامت له جامعة كالتك احتفالية كبيرة ألقى خلالها كلمة مؤثرة جدا قال فيها انه يحارب السرطان، وحكى فيها قصته منذ الطفولة انتهاء بتجربة محاربة السرطان، وقد اقتربت منه فى جلسة الاستراحة خلال الاحتفالية داعيا له بدوام الصحة والعافية، فرد قائلا: « ربنا يطول عمرى حتى أرى أول دفعة تتخرج من مدينة زويل»، وهى الأمنية التى لم تتحقق.
ويصمت لفترة طالت بعض الشىء، ظننت معها أن الاتصال قد قطع، ولكنه كان على ما يبدو يحاول السيطرة على مشاعره حتى لا تقهره دموعه، وهو يحكى موقفا آخر حدث بعد أسبوع من هذه الاحتفالية.
ويقول: «بعد الاحتفالية مرض مرضا شديدا حرمه على غير عادته من الحضور إلى المعمل لمدة أسبوع كامل، وفى أول يوم عمل بعد عودته جمع الباحثين وقال إنه سيخضع لبرنامج علاجى باستخدام الخلايا الجذعية قد يستمر لمدة شهر، وكان المرض قد بدأ يظهر عليه بشكل ملحوظ واختفت لمعة عينيه الشهيرة، وتلاقت عينه مع عينى فشاهدت دموعه تذرف لأول مرة، وبدأت نبرة صوته تتغير وتصبح أكثر حزنا، وعندها قررت ألا أكمل العمل فى هذا اليوم، وانصرفت بالتزامن مع انصرافه».
ويستطرد: « تلاقينا عند باب الخروج وسألنى وقتها : ( انت زعلان ليه )، وقال لى (لا تقلق هرجع تانى ونقعد نتخانق فى العلم)، ثم سألنى : ( هل معك سيارتك أم تود أن أصحبك فى سيارتي؟ ) «.
ويصمت لفترة ظننت معها مرة أخرى أن الاتصال قد قطع، قبل أن يواصل الحديث قائلا: شعرت أنه يريد أن يتحدث معي، فلربما لا تتاح لنا هذه الفرصة مجددا، فقلت له رغم وجود سيارتي، هل يمكن فعلا أن تصطحبنى فى سيارتك لأنى لم أحضر بسيارتى اليوم، ورغم قرب منزلى من الجامعة إلا أنه حرص على استخدام طريق أطول بعض الشيء، حتى تتاح لنا الفرصة للحديث فترة أطول».

< وهل كان ذلك هو اللقاء الأخير؟
- تصبح نبرة صوته أكثر حزنا وهو يقول: الغريب أنه عاد بعد تجربة العلاج هذه، وتحسنت صحته بعض الشىء، لكن حدثت له انتكاسة أخرى فى شهر يونيو من عام 2016، وظل فى المستشفى حتى توفى فى أغسطس من نفس العام.

< بما أن السنة الأخيرة فى علاقتكما كان يغلب عليها الطابع الإنسانى على غير العادة، فدعنى أسألك ماذا تعلمت منه إنسانيا؟
- تخرج الكلمات من فمه سريعة: حب الوطن، فدكتور زويل كان يذوب عشقا فى حب مصر، وهو ما يمكن أن تلحظه فى لهجته عندما يتحدث بالعربية. فلم تنسيه الإنجليزية لهجة أبناء البحيرة.

< هذا على المستوى الإنساني.. وماذا عن الجانب البحثى الذى كان الأساس لعلاقتكما؟
- تعود نبرة الصوت الحماسية للدكتور حسن وهو يقول: أهم ما يميز د.زويل عن العلماء الذين تعاملت معهم أن لديه رؤية بعيدة المدى، يستطيع من خلالها توقع ماذا سيحدث بعد 10 سنوات، وأى اتجاه بحثى سيكون مهما، ولديه قدرة على تحويل المستحيل إلى حقيقة، وخير مثال على ذلك اختراع الفيمتو ثانية، فعندما فكر د.زويل عام 1982 فى استخدام الليزر لقياس حركة الجزيئات فى التفاعلات الكيميائية، كان ينظر لهذا التوجه وقتها على أنه مستحيل، ولكنه نجح فى تحويل المستحيل إلى حقيقة، وأثمر ذلك عن تطوير الميكروسكوب رباعى الأبعاد ليعمل بسرعة «الفيمتو ثانية»، وقد أصبح هذا الميكرسكوب أساسا للعديد من التطبيقات، مما أهل د.زويل للفوز بجائزة نوبل عام 1999.

< ومتى سيحصل د.محمد ثروت حسن على هذه الجائزة؟
- يضحك قبل أن يقول: الباحث الذى يعمل وفى ذهنه الجائزة لن يحصل عليها، ولنا فى تجربة د.زويل خير مثال.
من الفيمتو إلى الأتو

< وما هى هذه التطبيقات؟
- التطبيق الأساسى كان فى الانتقال من البحوث التى أجراها لاستخدام الليزر لمعرفة وقياس حركة الجزيئات فى التفاعلات الكيميائية، إلى استخدام هذه المعرفة فى تطوير الميكرسكوب رباعى الأبعاد ليعمل بسرعة « الفيمتو ثانية «، وأصبح هذا الميكرسكوب أساسا لكثير من التطبيقات، حيث إنه يمكن الباحثين من تصوير حركة الجزيئات والذرات داخل المادة.

< هذا ما فعله د.زويل؟.. وماذا عما فعلته أنت؟
- قبل الحديث عما فعلته سأعود بك إلى بداية القصة، حتى أستطيع تقريبها، فالميكروسكوبات الإلكترونية كانت نوعين، احدهما يمسح سطح المادة المراد رؤيتها ويسمى «الميكروسكوب الإلكترونى الماسح» أو آخر نافذ يسمى «الميكروسكوب الإلكترونى النافذ»، ووظيفته محاولة رؤية ما تحت السطح، وما أنجزه د. زويل هو تجاوز رؤية سطح المادة وما تحت السطح، إلى تصوير حركة الجزيئات والذرات داخل المادة، باستخدام شعاع الليزر فى سرعة «الفيمتو ليزر».

وشعاع الليزر يتكون من مجموعة من النبضات، والمدى الزمنى للنبضة هو الذى يؤثر فى سرعة التقاط الصورة، فكلما كان قصيرا، ساعد على زيادة السرعة، ومن ثَم تصوير الأجسام الأصغر والأسرع، واستطاع د.زويل الوصول لمدى زمنى قليل للنبضة بسرعة الفيمتو ليزر، وهى مليون مليار جزء من الثانية، وما نجحت فيه هو الوصول لزمن ( الأتو ليزر) الذى يفوق الفيمتو ألف مرة أى ما يعادل مليار جزء من الثانية.
وقد سجلت موسوعة جينيس للأرقام القياسية فى فبراير 2016 هذا المدى الزمنى (الأتو ليزر) بوصفه أسرع ليزر ضوئى معروف فى العالم، وقد قمت بتطويره خلال فترة عملى بمعهد ماكس بلانك بألمانيا، وما أعمل عليه حاليا هو تطوير الميكروسكوب رباعى الأبعاد فائق السرعة ليعمل باستخدام الأتو ليزر، كما نجح د.زويل قبل ذلك فى تطويره باستخدام الفيتمو ليزر.

< وما هو الأفق الزمنى للانتهاء من هذا المشروع؟
- إن شاء الله قد نكون خلال خمس سنوات قادرين على تحقيق هذا الحلم.

< وما هى القيمة العلمية لهذا الإنجاز؟
- تصبح نبرة صوته أكثر حماسا وهو يقول: الدكتور زويل نجح فى تصوير حركة الجزيئات، ولكننا إذا نجنا فى ادخال «الأتوليزر» إلى الميكرسكوب، سنتمكن من تصوير حركة الإلكترونات، وسيمنحنا ذلك القدرة على التحكم فى التفاعلات الكيميائية وتخليق جزيئات جديدة، وهو ما سيكون له انعكاسات ايجابية على مجالات عدة ومنها مجال صناعة الأدوية.

< إذن نتوقع مثلا بعد 15 عاما من الآن انضمام د.محمد ثروت حسن إلى قائمة المصريين الحاصلين على جائزة نوبل ؟
- يضحك قبل أن يقول: طبعا هذا حلم يتمنى أى باحث تحقيقه، ولكنى كما قلت لك مسبقا أن من يعمل فقط من أجل الجائزة لا يحصل عليها.
 

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة