سور مجرى العيون في مكة
سور مجرى العيون في مكة


حكايات| سور مجرى العيون في مكة.. 6 أطنان من الذهب تسقي الحجيج

محمود مصطفى

الجمعة، 09 أغسطس 2019 - 09:49 م

 

قصص العطش في مكة كالآبار والعيون ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ كما في الأرض، فما بين طفل نبع "سر الحياة" من تحت قدميه، ومشقة حاجٍ انشق له الجبل لتجري الماء بين وديانه، كانت المرأة قاسمًا مشتركًا لسقاية أهل "أم القرى" وزوار بيت الله الحرام.

 

وكما يحفظ المسلمون اسم السيدة هاجر، زوجة نبي الله إبراهيم وأم إسماعيل -عليهم السلام- وقصة سد ظمأ رضيعها من ينبوع زمزم، يظل اسمًا آخرًا لامرأة يخلده التاريخ ويحفظه أهل مكة وضيوف الرحمن في بيته العتيق عن ظهر قلب، بمشروعها لسقاية الحجيج في وقت شح فيه الماء وواجهوا الصعاب للحصول عليه.

 

أقدم شبكة مياه

 

هناك على امتداد الطريق الواصل بين مكة والطائف، يرى المارة أحجارًا ملونة ومتعددة الأحجام، متراصة بإتقان هندسي بارع يراعي انسياب المياه، لتشكل أحد أهم وأقدم شبكات المياه في مكة، والتي ظلت على مدى قرون تنقل في جوفها الماء بكميات كبيرة بين جبال المشاعر المقدسة لتسقي أهل مكة والحجيج منذ نحو 1200 عام وحتى وقت قريب.

 

مجرى عيون زبيدة

 

رؤيا في المنام، للسيدة زبيدة بنت جعفر المنصور، وزوجة هارون الرشيد الخليفة العباسي الشهير، كانت سببًا وراء إنشاء "مجرى عيون زبيدة"، بحسب الباحث في التاريخ المكي ومعالم السيرة النبوية د. سمير برقة، إذ يقول: "رأت زبيدة أنها تحج وتجد أهل الموقف في ضنك وتعب، ففسرت الرؤيا على أنه طلب منها أن تفعل معروفًا لهؤلاء الحجيج".

 

يضيف "برقة"، في تصريحات خاصة لـ"بوابة أخبار اليوم": "عندما ذهبت زبيدة إلى الحج 186هـ، طلبت من مهندسين البحث عن حل لكيفية سحب المياه إلى مكة والمشاعر المقدسة نتيجة شح المياه آنذاك وما خلفه من مشقة على الحجيج وأهل المدينة، فأشاروا إلى الاستفادة من مياه الأمطار التي تهطل بكميات كبيرة على سلاسل جبال (الكرا والهدا والشفا) وتتجمع في وادٍ يقال له (النعمان) ناحية الطائف، ويبعد عن مكة بنحو 35 كم".

 


عين النعمان وعين حنين

 

المشروع بحسب "برقة"، قُسم إلى عينين الأولى منبعها من وادي النعمان وتصل إلى عرفات ومزدلفة ومنى ومكة، والثانية منبعها من جبل "طاد" بحُنين – المكان الذي شهد غزوة حُنين واليوم تعرف بشرائع النخل- وتصل إلى مكة أيضًا، بطول نحو 42 كم، بعضها مبني فوق الأرض بطول يتجاوز 25 كم، فيما بنيت أجزاء أخرى تحت سطح الأرض ودعمت بنقاط تفتيش تسمى "خرازات" بمجموع 132 خرزة وبعمق نحو 40 مترًا، أنشئت على مسافات متباعدة؛ بحيث لو انسدت المياه داخل القنوات المائية تحت الأرض يتمكن العمال من تنظيفها ليظل مجرى الماء انسيابيًا دون عائق.

 

"بسم الله الرحمن الرحيم.. هذه العيون سقاية لحجاج بيت الله وأهل حرمه، طلب ثواب الله وقربة إليه".. كلمات نقشت على "عين زبيدة" بحنين، كشفت عن هدف المشروع وتاريخ إنشائه والذي كان في العام 196 هـ - 709 م، بمشاركة مئات العمال، ويشبه إلى حد كبير سور مجرى العيون في القاهرة والذي بناه صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية في مصر إبان فترة توليه الحكم من عام 565 هـ وحتى 589 هـ.

 

كيف يستفيد الحجاج؟

 

تلتف العين حول أجزاء متفرقة من جبل الرحمة، حيث يحيط جزءًا من سور "مجرى العيون" بالجبل ثم يختفي تحت الأرض، قبل أن يظهر مرة أخرى بارتفاع نحو 5 أمتار وعرض مترين في طريق المتجه من عرفات إلى مزدلفة وسط الجبال.

 

بجانب القناة المائية القادمة من وادي النعمان إلى عرفات، جُعلت نقطة تمركز للمياه في 3 مواطن أساسية، عند جبل الرحمة لكثرة الحجيج، وعند المشعر الحرام في مزدلفة، وعند مسجد الخيف في منى، وأُنشئ في كل مكان منها خزانات للمياه تحفظها لأوقات طويلة، وخصصت أماكن محددة ليستفيد منها الحجاج من خلال استعمالها عن طريق الصنابير، وهي موجودة حتى اليوم، وامتدت منه إلى أن وصلت مكة ليستفيد منها المكيين من خلال ما يعرف بـ"البازان"، وهو مكان تجمع المياه وتوزيعه على منازل مكة.

 

ضربة الفأس بدينار

 

صعوبات بالغة واجهها المهندسون عند بدء تنفيذ المشروع المائي الكبير، أبرزها مصادفتهم لجبل يقف حائلاً دون إيصال المياه إلى مكة، ولكن بحسب الباحث في التاريخ المكي ومعالم السيرة النبوية، إصرار "زبيدة" على إنجاز المشروع ورصدها أموالا طائلة قدرت -حسب مؤرخين- بنحو مليون و700 ألف دينار، أي ما يعادل نحو 5950 كجم من الذهب، ساعد على تخطيها، حتى أنها قالت لخازن أموالها: "اعمل ولو كلفت كل ضربة فأس دينارًا"، وبالفعل نجحوا في تخطي عقبة الجبال، ببناء جسر يربط بين جبلين، وجُعلت له فتحات كمجرى لمياه السيول والأمطار حال قدومها حتى لا يتأثر البناء.

 

الحساب يوم الحساب

 

وقيل إنه لما تمّ العمل بنجاح اجتمع العمال بين يدي "زبيدة" وأخرجوا دفاترهم ليؤدوا حساب ما صرفوه، وليبرّئوا ذممهم من أمانة ما تسلموه من خزائن الأموال، وكانت تسكن في قصر مطلٍّ على نهر دجلة، فأخذت الدفاتر وألقتها في النهر، قائلة: "تركنا الحساب ليوم الحساب؛ فمن بقي عنده شيء من المال فهو له، ومن بقي له شيء عندنا أعطيناه".

 

"عين حُنين" لا تزال قائمة كبناء ممتد إلى مكة مرورًا بالمشاعر المقدسة حتى الآن، ويمكن للحجيج على جبل الرحمة رؤيتها بسهولة، إلا أن المياه توقفت عنها منذ أكثر من 30 عامًا، ولكن قبل عام تقريبا في 2018، هطلت أمطار قوية على مكة، وتحركت مياه المطر في المجاري المائية، حتى أن سكان المنطقة المحيطة ظنوا أن المياه دبت في العين مرة أخرى، ولكن هذا ما نفاه "برقة"، موضحًا أنها كانت مجرد مياه أمطار قادمة من خارج الجبال، ووصلت إلى المجرى المائي.

 

 

 

درب زبيدة

 

خطأ شائع يتداوله البعض حول "عين زبيدة"، اختتم الباحث في التاريخ المكي ومعالم السيرة النبوية حديثه بتوضيحه، مؤكدًا أن البعض يظن خطأً أن العين قادمة من العراق إلى مكة، ولكن ما يأتي من العراق مشروع آخر يعرف باسم "درب زبيدة"، فكونها زوجة خليفة، كانت تخرج بالحجيج من بغداد إلى مكة، وفي طريقها تقيم البرك لحجاج بيت الله الحرام والماشية، ولا تزال هذه البرك موجودة في الطريق إلى الآن، وتهتم به هيئة السياحة السعودية كمعلم تراثي، كما هو أيضًا الحال مع "عين زبيدة".

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة