د. محمد السعدنى
د. محمد السعدنى


فى الفكر والسياسة

فى مديح «ما يكفى»- لا تقرأوا القشور

محمد السعدني

الخميس، 05 سبتمبر 2019 - 07:12 م

 

الطموح مصيدة، تتصور أنك تصطاده، فإذا بك أنت الصيد الثمين. فلا سقف للطموح فى هذه الدنيا، وعليك أن تختار ما يكفيك منه ثم تقول نكتفى بهذا القدر. لكن من يستطيع أن يقول لا فى الوقت المناسب، ؟ فالنجاح الكافى صيحة أطلقها «لورا ناش» و»هوارد ستيفنسون» يحذران فيها من النجاح الزائف المراوغ الذى يفترس عمر الإنسان، فيظل متعطشاً للمزيد دون أن يشعر بارتواء. إن كنت لا تصدق، فإليك بهذه القصة من حكايا وحكم الصين القديمة، حين أراد ملك أن يكافئ أحد مواطنيه بأن يمتلك من الأرض كل المساحات التى يستطيع أن يقطعها سيرا على الأقدام. فرح الرجل وأسرع مهرولا فى جنون. سار مسافات طويلة فتعب وفكر أن يعود للملك ليمنحه المساحة التى قطعها، ولكنه غير رأيه وقرر مواصلة السير ليحصل على المزيد، وكلما نال منه التعب وقرر العودة والاكتفاء نازعته نفسه وراح يعاود المسير، حتى وقع صريعاً من الإعياء، لكأنه المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فقد ذهب ولم يعد ولم يمتلك شيئاً لأنه لم يعرف حد الكفاية ولم تأخذه القناعة إلى طريق قويم. مثل هذه الحكايا تتكرر كثيراً فى كتابات ومنتديات الفيس بوك والواتس آب المصرية والعربية على حد سواء، فتخلط ما لا يخلط، وتجمع ما لا يجمع، وتقيس المسافات أحياناً بالكيلوجرام.
للوهلة الأولى قد تبدو لك الكلمات والحكاية مؤثرة أخاذة، لكنك بقليل من التفكر والتروى تكتشف ما فيها من خطأ القياس وفساد الاستدلال. فصاحبنا فى القصة لم يكن دافعه الطموح بقدر ما استغرقه الطمع، ولم يكن معنياً بالنجاح فى أمر يخصه كمهنة وحرفة وإبداع، إنما كان رغبة فى التحصيل والاستحواذ استغرقته حد الذهول عن جادة الهدف فلم يعرف فارقاً بين الخروج من حد الكفاف إلى حد الكفاية إلى حد الوفرة، فأخذته المغامرة إلى حد الخطر والضياع. وهو أمر لا علاقة له بالطموح الإنسانى فى الترقى والحداثة والتطور الذى تدعمه إمكانات وقدرات ورغبة فى تحقيق الذات والنجاح فى العمل والأداء والإنجاز.
المدهش فى الأمر هو رغبة العقل العربى فى المراوغة ولى عنق الحقيقة والإصرار على القراءة الخاطئة فيما يورده من أعمال وأقوال من يستشهد بهم من الكتاب الغربيين، فيأخذ عنهم القشور دون إعمال فكر فى المحتوى والمضمون. فعندما رجعت إلى أصل كتاب «لورا ناش وهوارد ستيفنسون» الأستاذين فى كلية هارفارد للأعمال والصادر عن مؤسسة جون ويلى للنشر 2004، وتصفحته عن طريق «أمازون» وجدت أنه يقدم نظرة كاشفة وقائمة على الأبحاث حول الطبيعة الحقيقية للنجاح المهنى ذو المعنى وكيفية المضى قدماً فى تحقيقه، ومساعدة الناس فى كل مكان على العيش حياة مجزية ومرضية دون ضغوط أو هوس الطموح المتزايد، وبطريقة قوية وملهمة من القيم وتحقيق الذات، والأداء العالى والإرث الخاص توفر مورداً جديداً عميقاً للقيادة فى كل مكان»، وهو أمر يختلف عما ورد فى قصتنا عن «النجاح الكافى» الذى يخاصم الطموح فى الترقى وجودة العمل والإنجاز. وهو لا يقصد أنه يكفيك تحقيق نجاح لتتوقف عن الطموح، إنما يقصد ألا تصبح مهووساً بالطموح فتهمل حياتك الإنسانية. وهو لا يربط الطموح بالطمع، إنما يربطه بما يدعمه من أسس وقدرات وإمكانات، حيث العديد من مشاكل النجاح اليوم يمكن إرجاعها إلى التوقعات والمفاهيم الخاطئة غير الواقعية حول ماهية النجاح وما الذى يشكله. وهذا واضح من عنوان الكتاب «Just Enough: Tools for Creating Success in Your «Work and Life
وأنا أترجمه بطريقتى: «فى مديح ما يكفى - أدوات لتحقيق النجاح فى حياتك وعملك» بينما يترجمه الآخرون «النجاح الكافى» ويكرسونه ربما عن غفلة أو سوء قصد لضرب الطموح و»بارك الله فيما رزق» وهو أمر لا يتمناه لنا إلا من بيت الشر أو ممن حسنت نيتهم من الحمقى والمغفلين. وقد كان موضوع نقاش مع المثقف الكبير الكاتب والإعلامى جمال الشاعر نورده فى مقال آخر.
والطموح لا يكون مصيدة إلا فى مديح ما يكفى، فلا تقرأوا القشور.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة