جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

سجناء كهف الضمير

جمال فهمي

الخميس، 05 سبتمبر 2019 - 07:22 م

الكاتب والفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر أبدع فى خمسينيات القرن الماضى واحدة من أجمل وأعمق (وربما أعقد) نصوصه الأدبية، مسرحية «سجناء الطونا».
هذه المسرحية التى كانت أول عروضها فى العام ١٩٥٩، تعالج دراميا قصة انتحار أحد كبار رجال الصناعة الألمان أيام حكم النازى، فون جيرلاش وابنه فيرنر الذى يبدو شابا مثاليا يحب بلده ويحب أباه كثيرا حتى أنه يقلده فى سلوكه وحركاته ويكاد يتماهى فى شخصيته، لكنه سرعان ما يخوض سلسلة متصلة من التجارب التى تصيبه بخيبة أمل وإحساس عميق بالفشل ما يدفعه للانضمام إلى الجيش ويصبح واحدا من ضباط هتلر، وفيما هو يبحث عن الموت فإن الموت لا يدركه أبدا على جبهات الحرب، ويظل حيا تأتيه الترقيات وتتراكم على صدره الأوسمة والنياشين حتى تنتهى الحرب بهزيمة ألمانيا النازية ويعود هو كسيرا مدحورا وذليلا، ويقرر حبس نفسه فى حجرة بقصر أبيه، «قصر الطونا»، إلى أن ينتحر بعدما أمضى 13 عاما فى زنزانته الاختيارية يناجى العقارب والحشرات ويعتبرها جميعا المحكمة التى يعرض عليها قضيته ويسمعها مرافعاته دفاعا عن شرف الإنسانية.
غير أن الأمور ليست بهذه البساطة، فقد قام سارتر بتعقيد الموضوع وتعميقه باستخدام حيل وتقنيات درامية استعار بعضها من صناع السينما، فراح يتلاعب بالأحداث يقدم بعضها ويؤخر البعض الآخر .
وبدورها فإن هذه القصة، سرعان ما يكتشف المشاهد أو القارئ للمسرحية أنها ليست هى كل الحقيقة بل إن هناك حقائق أخرى أخطر وأهم، تنكشف واحدة منها عندما تخفت أضواء المسرح ويرى الجالسون فى قاعة العرض بالكاد مشهدا من الماضى (فلاش باك) يجمع الأب والابن، ومن الحوار الذى دار بينهما نفهم أن الأب كان قد منح الحكومة النازية قطعة أرض من أملاكه أقيم عليها معسكر من معسكرات الاعتقال، وقد شعر فيرنر بصدمة هائلة حينما شاهد منظر المعتقلين البؤساء، ويحزن جدا لأبيه الذى شارك فى هذه الجريمة وسمح بإقامة معتقل فى أرض يملكها، ويزداد شعور فيرنر بوجع الضمير عندما يعثر يوما على واحد من هؤلاء السجناء المساكين هاربا ويجدها فرصة للتكفير عن ذنب أبيه، فيساعد هذا المسجون على الاختفاء فى قصر الطونا، ويعرف الأب القصة ويعد ابنه بتهريب الرجل خارج ألمانيا، ثم يحادث واحدا من القادة النازيين طالبا منه إنقاذ فيرنر من الجستابو (جهاز المخابرات النازى) لكن الذى يحدث أن رجال هذا الجهاز يداهمون القصر ويقتلون المعتقل الهارب أمام عينى الابن، ولذلك تفشل محاولة فيرنر التكفير عن خطأ أبيه فيقرر ترك البيت فورا وينضم إلى الجيش باحثا عن راحة الموت التى لن يفوز بها فى الجبهة.
لم ينته مسلسل الحقائق الواقفة خلف واقعة سجن فرانز لنفسه، بل تتكشف حقائق أخرى أشد هولا وإثارة..
إذن تظل الحركة الدرامية فى المسرحية تتصاعد وتضرب هنا وهناك كاشفة عن طبقات من الحقائق المتناقضة والمتراكمة فوق بعضها حتى نصل للمشهد الأخير حيث يجتمع الأب والابن السجين معا، وهنا نكتشف أن إصرار فيرنر ألا يقابل أباه وهو في محبسه الاختيارى ليس بسبب كل ما خمناه وإنما السبب الحقيقى أن لا يستدرجه الأب فيعرف منه الجرائم والفظائع التى ارتكبها الابن نفسه.
وفى لحظة يقرر الأب والابن أن يمارسا معا ولأول مرة، حريتهما كاملة.. حرية التصرف فى حياتهما التى أنفقاها فى العبث وارتكاب الخطايا والذنوب، فينتحران معا.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة