د. ليلى الغلبان
د. ليلى الغلبان


يوميات الأخبار

عالم ذكى جدًا.. ولكن

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 08 سبتمبر 2019 - 08:43 م

لا أود أن نقع فى فخ الثنائية وهو إما الإفراط فى المخاوف والنظرة التشاؤمية، وأنه بداية فناء البشرية أو الإفراط فى الأحلام.

توقظه الدمية الذكية.. ينهض من فراشه بسرعة وفى دقائق معدودة يكون قد استعد للخروج.. عليه أن يسرع؛ فلديه مقابلة شخصية للحصول على وظيفة فى مصنع آخر.. يقترب من الباب.. يفتحه بلا مفاتيح، فالشريحة المتناهية الصغر المثبتة على جلده تعمل عمل المفاتيح وتمكنه من التسوق بدون حمل بطاقة الائتمان وإظهار هويته دون حمل بطاقة أو جواز سفر، حيث يخزن عليها تاريخه الصحى.. يتجه إلى السيارة.. تسير ذاتيًا. يدخل لإجراء المقابلة الشخصية فيجد أن من يجرى معه المقابلة هو روبوت.. وعلى طول الطريق تظهر اللافتات التى تعلن عن سباق سيارات بلا سائقين، وبطولة كأس العالم للألعاب الإلكترونية فى كل مكان... يتصفح الأخبار على هاتفه.. رجل أعلنت الشرطة أنه مفقود منذ يومين، وقد تم العثور عليه فى الصحراء باستخدام طائرة من دون طيار... يصل إلى المصنع الذى يعمل به وقد سرح المصنع عددا كبيرا من عماله وحلت محلهم روبوتات لا تهدأ.. ينهى نوبة العمل ويتجه إلى المطعم القريب.. يأتيه النادل الروبوتى.. يطلب بعض المشويات التى أعدها روبوت آخر.. يتناول طعامه وينصرف، فقد حان وقت التوجه إلى أكبر صالات المزادات فى المدينة.. يبدأ المزاد.. لوحة رسمها فنان روبوتى تباع بمبلغ خيالى يقترب من المبالغ التى تدفع لشراء لوحات فان جوخ وجويا، بورتريهات بديعة لأشخاص أبدعتها روبوتات فى وقت وجيز جدا بمجرد النظر إلى وجوه أصحابها فى صالة عرض مجاورة... يتوجه إلى البيت فيجد فى انتظاره الدمية الذكية.. يتناول عشاء خفيفا أمام التليفزيون.. قارئ نشرة الأخبار الروبوتى يقرأ خبرا عن استخدام الروبوتات فى البحث عن غواصة مفقودة ومحاولات تفقد سفينة تايتنيك فى قاع الأطلنطى، وخبرا آخر عن جيوش الروبوتات التى ستحارب وتدير حروب المستقبل.. يشعر أنه ليس على ما يرام.. يلتقط هاتفه ويفتح تطبيقا يعطيه معلومات مفصلة عن حالته النفسية والجسمانية وإرشادات لما يتوجب عليه عمله!
عزيزى القارئ: هذا ليس يوما فى حياة بطل إحدى روايات الخيال العلمى، إنه الآن حقيقة تقع فصولها اللاهثة أمامنا كل يوم. إن استخدام الذكاء الاصطناعى فى كافة مجالات الحياة قد فاق كل خيال: فى العمل الشرطى والطبى، فى الفضاء والمصانع فى خدمة التوصيل وأعمال المراقبة والمتابعة والخدمة المنزلية وغيرها، مما لا يتسع المجال لذكره. واستحوذت أخباره على اهتمام الناس لدرجة أنك إذا ما سألت أحدا عن المستقبل فسوف يقول لك إن الآلة سوف تقوم بكذا وكذا، تقريبا كل شيء، وقد توارى ذكر الإنسان لتتسيد الآلة مسرح الحياة.
والذكاء الاصطناعى يعنى ببساطة تطوير برامج حاسوب وآلات يمكنها أن تقوم بمهام تتطلب ذكاء ويحاكى القدرات المعرفية للبشر، ترى وتتعلم وتفكر.
وأمام سيل الأخبار عن التقدم الصادم أحيانا فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى بفعل تضافر علوم كثيرة جدا منها علم اللغة والبيولوجيا والأعصاب وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها الكثير أجدنى، وأعتقد أن القارئ الكريم مثلى، أتذكر رائعة ستيفن سبيلبرج «الذكاء الاصطناعى»؟ و«مأساة» الروبوت بطل الفيلم الذى تم تصنيعه كى «يتبناه» أبوان ولم يعد مرغوبا فيه بعد أن شفى ابنهما البشرى من مرض أفقده الوعى فترة طويلة؟ لقد كانت مشاهدة الفيلم تجربة مروعة بالنسبة لى، إذ لا أنسى ولا أظن أن أحدا ينسى المشهد الذى أخذت فيه الأم ابنها الروبوت إلى الغابة كى تتركه هناك، لا أنسى كم كان ملتاعا منتحبا مذعورا وقد انهمرت دموعه وهو يتوسل لها «أمى.. أمى.. لا تتركينى هنا وحدى». لقد تنبأ الفيلم بأن الحد الفاصل بين البشر والروبوت لن يكون واضحا. وهو بالفعل ما يتم العمل عليه الآن: روبوتات تفكر وتفعل وبشر يحاولون محاكاة الآلة بإدخال برامج لتصبح جزءًا من أجسادهم لتدخل البشرية عصر ما بعد الإنسان. تملكتنى حينئذ ومازالت مشاعر من الحيرة حيال المستقبل. كيف يمكن أن نصنع آلات تفكر وتشعر وتقوم بأعمال فائقة، وتقوم مقامنا فى معظم الأحيان، بل وتقتلنا أحيانا؟ ماذا تبقى للإنسان؟
جميل جدًا أن نعيش فى عالم ذكى يعظم من قدراتنا ومنجزاتنا وينطلق بنا صوب عالم تتجلى فيه قدرة الخالق العظيم الذى علم الإنسان ما لم يعلم، يحقق فيه الإنسان أحلامه ومغامراته وشغفه بالاكتشاف والتجريب نشدانا لعالم من الرفاهية والسعادة، ولا يمكن بأى حال من الأحوال إنكار الإنجازات الباهرة للذكاء الاصطناعى فى حياتنا، فى الاتصالات والتعليم والترجمة والفنون والسياحة والطب والهندسة وعلم الجريمة والكشف عن الثروات الطبيعية ومواجهة الكوارث وغيرها الكثير، ولنا أن نفخر أننا نعيش فى عصر يشهد هذه الإنجازات، ولا أود أن نقع فى فخ الثنائية الذى يتناول فيه الإعلام قضية الذكاء الاصطناعى وهو إما الإفراط فى المخاوف والنظرة التشاؤمية، وأنه بداية فناء البشرية أو الإفراط فى الأحلام وأن العلم حتما سيجد الحلول لمشكلات المستقبل المحتملة ولا داعى للقلق.
ولكن ينبغى التعامل بشكل علمى جاد مع آثاره الجانبية المحتملة. لعل أبرزها أن كثيرا من المهن سوف تختفى فى القريب العاجل. وفى المقابل ستظهر مهن أخرى لم تكن موجودة من قبل، فماذا عن أولئك الذين فقدوا وظائفهم؟ هل بإمكانهم التأهل لوظائف جديدة بسهولة؟ وما العواقب الاجتماعية لذلك؟ سوف تكون هناك زيادة فى متوسط الأعمار، وعدد كبار السن سيكون أكثر مما هو عليه الآن؛ نتيجة التطور الهائل فى بحوث الوراثة والخلايا الجذعية، ترى ماذا سيكون شكل العلاقات الإنسانية لاسيما وأن هناك اتجاها متناميا لاستبدال العلاقات الإنسانية بعلاقات مع الآلة؟ وماذا عن مشكلات الفقر وندرة المياه والإرهاب وغيرها؟
إن صاروخ الذكاء الاصطناعى وتطبيقاته بوجه خاص، والتكنولوجيا بشكل عام، قد انطلق بعيدا ومازال ينطلق بلا حدود ويضع الجميع: حكومات ومجتمعات ومفكرين وقبلهم الباحثون فى مجال الذكاء الاصطناعى أنفسهم أمام تحد غير مسبوق، يتجلى فيه الذكاء الاصطناعى لمواجهة تلك الآثار الجانبية لا أن يندفع بحمى الاستكشاف والتجريب أولا ثم التفكير فى التداعيات لاحقا وترك العالم أمام وحش ضار.
عمى النباتات وحرائق الغابات
أثارت الحرائق المفجعة لغابات الأمازون شجن العالم وصارت أخبارها حديث قطاعات كبيرة من المتابعين فى كل ركن منه حتى من أولئك الذين لم يحفلوا قط بمثل هذه الأخبار من قبل، ولم يتألم أحد لفاجعة بيئية مثلما تألم لهذه الكارثة، ولم لا؟! وقد أضحت قضية التغير المناخى وآثاره الوخيمة فى الواجهة، وراح الجميع يتحدث عن الأسباب التى تقف وراء ذلك وكيفية صون غابات العالم باعتبارها مستودعات الأكسجين على الأرض وهى ملك للإنسانية ومسئولية الدول الصناعية الكبرى فى إيجاد الحلول، خاصة أنها المتسبب الأول لمشكلات الأرض البيئية، وغيرها مما لا يتسع المجال له.
وقد استدعت الكارثة قضية أراها جديرة بأن يروج لها على نطاق واسع، ألا وهى عمى النباتات لما لها من علاقة وثيقة بالحفاظ على الغطاء النباتى للأرض وصيانة تنوعه وتنمية الوعى البيئى عامة. ولشرح هذا المصطلح ليسمح لى القارئ الكريم أن أطرح عليه بعض الأسئلة.
وأنت تمشى فى الطرقات أو تتجول فى المتنزهات، هل تعرف أسماء النباتات من حولك؟ هل انتبهت يوما إلى الأنواع المختلفة للنجيل الذى تمشى عليه؟ أم أنك تعتبره مجرد خضرة بالمكان؟ هل تسترعى نظرك قطرات الندى المتساقطة من الأشجار على رصيف الشارع؟ هل تلاحظ أوراق الشجر الجافة حين تطأ بقدميك عليها؟ وهل خطف نظرك يوما نبات ينمو بين شقوق جدران الأبنية القديمة التى تمر عليها؟ وإذا ما رأيت صورة لزرافة تأكل أوراق شجرة هل تجد نفسك منتبها إلى الشجرة أكثر من الزرافة؟ إذا كانت الإجابة بالنفى فأنت تعانى من أعراض ما يسمى بعمى النباتات أو الأمية النباتية. لكن انتظر... لا تقلق؛ لأنك مع الأسف الشديد لست وحدك!
وقد يقول قائل إن فى ذلك مبالغة من الكاتبة، ولكن الدراسات تؤكد أننا نحتفظ بصور ذهنية للحيوانات أكثر دقة من صور النباتات. فالحيوانات تشبهنا إلى حد كبير، تتحرك من مكان لآخر، تأكل وتتكاثر، وقد تمثل خطرا علينا، تعيش بيننا وتلمس وترا فى قلوبنا حين نعرف أن بعضها على وشك الانقراض. أما النباتات فلا نكاد نشعر بها، تظل دائما فى هامش شعورنا، لا تقفز أبدا إلى بؤرة انتباهنا، ربما لأنها تظل مكانها ولا تمثل تهديدا، ولذا نكاد لا نراها ومن ثم لا نهتم بها، مع تسليمنا بتلك العلاقة المتبادلة بيننا وبين النباتات، فهى تمنحنا الأكسجين والطعام والدواء وتدخل فى كل شيء فى حياتنا، وتستحيل الحياة على الأرض بدونها. وقد كان لذلك عواقب بيئية وعلمية وخيمة، إذ تقلص الإنفاق على أقسام النبات فى الجامعات، وتدنى الإحساس بالجمال وأهمية النبات؛ مما أدى إلى إزالة أجزاء كبيرة من الغابات عمدا أحيانا، وهو ما أفضى إلى التصحر وتشريد مجتمعات بأكملها وضياع إرثها الثقافى واللغوى وزيادة الفقر والبطالة والجريمة والهجرة والحروب.
> لقد أوردت وسائل الإعلام قصصا بطولية لسكان الأمازون الذين قضوا نحبهم فى الدفاع عن غاباتهم، موطنهم وموطن ثقافتهم وهويتهم، لقد أثبت هؤلاء أنهم أكثر وعيا واحتراما للنبات والبيئة حولهم وأنهم لا يعانون من عمى النباتات مثلنا وقد منحهم ذلك حكمة تراكمت مع السنين لتفرز هذا التناغم اللامتناهى بين الإنسان وبيئته وتقف حجر عثرة فى طريق الاستغلال غير الأمثل للموارد الطبيعية بدعوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات، وتدفع باتجاه الاستفادة الرشيدة لتلك الموارد.
> إن عمى النباتات إن لم تتم معالجته سوف يقود إلى مزيد من الجهل بالأخطار البيئية المحدقة بنا. ولتكن البداية فى حديقة المدرسة، والتى يمكن أن تكون المصدر المفتوح للمعرفة بالنباتات وفى المناهج الدراسية كى يتم القضاء على الأمية النباتية، لنحرص على قضاء وقت أكبر فى الأماكن المفتوحة نقترب أكثر من الطبيعة والطيور والحيوانات ونمارس فيها بعضا من طقوس حياتنا.
إن الدعوة إلى رفع الغمامة أو الغشاوة عن أعيننا وإمعان النظر إلى النباتات من حولنا كان الهدف الذى رمى إليه مشروع جامعة هارفارد البحثى لما يسمى «علم المواطن» دعى فيه المواطنون ومحبو النباتات للمشاركة بكتابة وتوثيق كل ما يتعلق بالبيئة النباتية المحيطة بهم، وقد ساهم ذلك فى الحصول على معلومات قيمة عن الحياة النباتية فى أماكن نائية لم يصل إليها فريق بحثى من قبل، وتم رصد العديد من السلالات المعرضة للانقراض. إن مثل هذه المبادرات لمحو الأمية النباتية ستسهم فى زيادة الوعى البيئى والإحساس بالجمال لدى المواطنين.
< رئيس قسم اللغة الإنجليزية بآداب كفر الشيخ

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة