نادر عيسى
نادر عيسى


نادر عيسى يكتب: أنيــن سكـــان الجنــة

نادر عيسى

الأحد، 08 سبتمبر 2019 - 09:21 م

«إحنا كل أملنا الحكومة بس تبص علينا وعلى أحوالنا».. «قبل 2011 كنا ولا شرم الشيخ والغردقة»، قد تكون سخرية القدر، أو لأن أحد أسرار الحياة هو المفارقة والتناقض في كل شيء، فساكنو الجنة يشتكون ويأنون من الإهمال والتجاهل واللامبالاة.

 

أما الجنة فهي واحة «سيوة»، درة التاج على جبين الصحراء، الرمال التي شهدت تتويج أعظم ملوك الأرض «الإسكندر الأكبر»، أرض تطرح الخير في كل شبر من «واحة الغروب» كما أسماها الأديب الكبير بهاء طاهر، مياه جوفية، عيون كبريتية أجود أنواع البلح والزيتون، رمال للعلاج والتداوي، الملاحات على كل لون، المنتج الأول للمياه المعدنية في مصر، طبيعة تأسر العقول.

 

بدأت قصتي خلال الأيام الماضية مع واحة سيوة بخلاف حاد مع الـGPS ونظام الملاحة لجوجل، ولأني أؤمن بالتكنولوجيا والعلم، وأصدق الـGPS حتى وإن كذبته الطرقات والشوارع -مع بعض التصرف طبعاً لأننا في مصر- وبعد خروجي من مرسى مطروح، وحسب تقديراتي فإن المسافة بالسيارة بين مرسى مطروح وسيوة ستكون في غضون الثلاث ساعات، فالحسبة بسيطة جداً 290 كيلومتر في سيارة بسرعة 100 كيلومتر/ساعة، تعطي هذه النتيجة من دون الحاجة لأي فلسفة.

 

لكني فوجئت أن صديقي الـGPS يخبرني بكل وقاحة أن أمامي 4 ساعات و45 دقيقة.. كيف؟!، مئات الأسئلة ولا أجوبة، أغلق Google Maps  وأعيد فتحه، أتأكد أن هناك تغطية من شبكة المحمول، أتصفح اليوتيوب لأتأكد أن الانترنت موجود وبخير، لكن الـGPS أبى إلا أن يعطيني هذه النتيجة كل مرة.. 4 ساعات و45 دقيقة.

 

أكملت طريق مرسى مطروح – سيوة وهو عبارة عن طريق واحد بحارتين فقط للاتجاهين، لأكتشف لماذا 4 ساعات و45 دقيقة.. فخلال 60 كيلومتر من 290 كيلو، تقريباً لا طريق.. نعم لا طريق.. فجأة تجد نفسك أمام حفرة واسعة بداخلها حفرة أكبر بعرض الطريق، ضغطة قوية على مكابح السيارة قلبت كل ما فيها رأساً على عقب، وتبدأ في تأمل الطريق لتجد أنه لا مجال للعبور سوى أن تتجه لأقصى اليسار لتعبر على حافة الحفرة، ثم تكمل السير على أسفلت مكحوت أشبه بالمدقات الجبلية، وبالطبع أقصى ما تحلم به هو أن تصل سرعتك إلى 20 كيلومتر/ ساعة.

 

أنهيت هذا الجزء وبدأت في زيادة السرعة مرة أخرى بعد أن عاد الطريق إلى طبيعته، لاكتشف مرة أخرى أن الحفر تتكرر مرات ومرات خلال الـ60 كيلومتر، لكن بأشكال وأحجام مختلفة، فبعضها أصغر لكن مع قمة جبلية مدببة في المنتصف موجهة مباشرة إلى موتور السيارة، وحفر أخرى صغيرة لكنها متراصة بجانب بعضها البعض على شكل زجزاجي، مثل الأقماع في اختبار القيادة، ثم لا أسفلت على الطريق لمسافة طويلة، يجعلك تفكر؛ ما ذنب السيارة التي قررت أن تشاركك في رحلة إلى سيوة وأنت تسمعها تأن، وتندب «العفشة» حظها العاثر وتصرخ الإطارات من تهورك وجنونك؟.

 

بتعرف تعد لحد كام!

 

بتاريخ 23 يوليو 2019 «مصرع طفلتين شقيقتين وإصابة 9 أشخاص»، قتيل و12 مصابا في حادث على طريق «مطروح- سيوة»، بتاريخ 31 يناير 2018 إصابة 27 شخصًا في حادث انقلاب أتوبيس على طريق سيوة – مطروح ، 30 أغسطس 2019 إصابة 8 أشخاص في حادث على طريق سيوة، 12 نوفمبر 2018 مصرع 4 وإصابة 19، 30 مايو 2019 إصابة 5 على طريق سيوة مطروح. هذه حصيلة مبسطة من أخبار العام الماضي عن هذا الطريق. 

 

ولأني اعتمدت على تقديراتي الذاتية وأهملت نصائح الـGPS فقد أكملت الـ50 كيلومتر الأخيرة في ظلام دامس بعد أن ألقى الليل أستاره، فالطريق خال من الخدمات أو أساسيات الطرق أصلاً.. لا أعمدة إنارة ولا عواكس ضوئية ولا لوحات معدنية ولا موانع ومصدات للرياح، هذا بالإضافة إلى كم هائل من سيارات النقل الثقيل التي تسير أيضاً بسرعة عالية.

 

كل هذا كان مجرد المقدمة للحسرة الكبيرة القادمة، فبعد أن وصلت إلى واحة سيوة كدت أن أسجد شكراً لله وحمداً له على وصولي سالماً، لكن ما إن وقفت في منتصف المدينة حتى فوجئت بحالتها المزرية، الشوارع جميعها مكسرة، وللتندر فإن أهل سيوة لا يتذكرون آخر مرة تم رصف الشوارع، التراب يصل إلى عنان السماء، فوضى من التريسيكل والموتوسيكلات والسيارات بمختلف أنواعها، لا تدري من يذهب إلى أين؟.

 

لا أحد هناك؟!

 

«2 من أعمامي وجميع أفراد عائلتهما ماتوا العام الماضي على الطريق بعد ان اشتروا لابنة أحدهما الشبكة وكانت تستعد للزفاف بعدها بأيام»، هذا ما أخبرني به أحد الشباب العاملين بمحال بيع التمور بسيوة، سألته: وأين المسئولين؟ ألا يعلم أحد ما تعانونه؟، كان الرد: عندما يأتي مسئول يتم تنظيف الشوارع ورشها بالماء لتكون المدينة جميلة، كما أن المسئول يأتي بالطيران، وتتجول به سيارات دفع رباعي في الواحة فلا يشعر بالحفر والمطبات في الشوارع.

 

كيف تمتلك مصر مكان مثل واحة سيوة وتغرق في هذا الإهمال البشع؟ ليتملكك شعور بالغيظ والحنق كمن يمتلك كنز فريد لكنه يصر على أن يضيعه أو يلقيه في القمامة، أين وزارة السياحة؟ جميع من قابلتهم أكدوا لي أن قبل 2011 كانت الواحة لا تتوقف يوماً عن استقبال السائحين من كل بلاد العالم، كانت الأسواق عامرة وكل الغرف محجوزة في الفنادق، أين وزارة الزراعة؟ كيف نسوق ونستثمر تمور سيوة، والزيتون وزيت الزيتون، أين وزارة النقل؟ من هذه الطرق المتكسرة وكأن بلداً وأناساً يعيشون من العصر الحجري، أين وزارة الإسكان؟ أين محافظة مطروح؟، هل هناك إجابة على هذه التساؤلات أم أنه لا أحد هناك ليجيب؟.


عرفت و زرت بلداناً تتمنى ولو واحد على عشرة من واحة سيوة، تتمنى أن يرتبط أي مكان أو حتى حجر منها باسم يحمل التاريخ نفسه مثل الإسكندر الأكبر، وآمون، والفراعنة العظام، فمثلاً في تركيا؛ ابتدع القائمون على السياحة بمدينة «أفسس» التركية أن السيدة مريم العذراء قد عاشت هناك بأحد البيوت التاريخية قبل أن وفاتها، وهو كذب محض طبعاً، لكن الرقم الأهم هو أن هذا البيت محاط بـ170 فندقاً، لزوار يأتون لزيارة خدعة لجذب السائحين.

 

فتلك الرواية التركية تخالف كل العقائد التى يؤمن بها المسيحيون، ومع ذلك يقبلون على زيارة البيت الوهمى، فكل الكتب الكنسية تذكر قصة وفاة السيدة مريم العذراء، وتؤكد أنها ظلت بقية حياتها بمدينة أورشليم «القدس» حتى موتها وصعود جسدها للسماء حسب الاعتقاد المسيحى، فلم تسافر أبدا إلى أفسس فى تركيا.

 

لم أكتب!

 

كانت أمنيتي وأنا أستعد للكتابة عن «سيوة» أن أكتب تلك السطور في وصف جمال السماء في ليل سيوة، وكيف تكون النجوم كاللؤلؤ المنثور في صحن السماء، مشهد لا مثيل له، وعن تلك العيون التي تتفجر من الأرض وتتجدد مياهها حاملة الدواء لكل معتل ومريض، عين بريزي ، وكليوباترا وغيرها.

 

أن أكتب عن روعة مشهد الغروب في جزيرة فطناس، اللون الأحمر في لحظة يكسو كل شيء، المياه.. السماء.. النخيل، لحظات تحبس فيها الأنفاس من قدرة الخالق، الذي وهب هذه البقعة في عمق الصحراء هذا الجمال.

 

كان ودي أن أكتب عن قلعة شالي، والنخيل الذي يعطيك أحلى انواع البلح في كل شبر و وزاوية، شاي الزردة بالريحان و ورق الليمون، الملوخية السيوي، والكسكسي.

 

لكن للأسف، اللوحة التي رسمها القدير بريشته يفسدها البشر بالتجاهل والنسيان، ولأتحسر كثيراً لأن الإنسان أحياناً لا يكون على قدر المكان.

 


 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة