د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يومــيات الأخـــبار

أثر تقديم المتأخر

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 12 سبتمبر 2019 - 08:35 م

 

د. مبروك عطية

وظلوا هكذا يسألون وهو صلى الله عليه وسلم يجيب حتى انتهى إلى قوله: والكلمة الطيبة صدقة.

لماذا أخر الحج؟
السبت:
المتأمل فى ترتيب أركان الإسلام يجد الحج آخر ركن، وذلك لأنه ليس فى وسع جميع الناس أن يحجوا، وقد قال تعالى: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا»، بخلاف الصلاة التى تبدأ بعد الشهادتين، فبوسع كل المكلفين أن يقيموها، ومن لم يقدر أن يصلى قائما صلى قاعدا، ومن لم يقدر على الصلاة قاعدا صلى مضطجعا، وهكذا نجد البداية بالأيسر من فقه الدين، ومن جمال تعاليمه، والأصعب دائما يكون فى النهاية، وقد قالت العرب: آخر الدواء الكى، أى لا نبدأ بكى المريض بالنار إلا إذا أعيتنا الحيل، فإن لم ينجع بإحداها علاجه، فالكى آخر الدواء، وكذلك قالوا: ما أمكن إصلاحه بالكلمة فلا يصلح بالعصا، وما أمكن إصلاحه بالعصا لا يصلح بالسيف، فالسيف آخر شىء، لكن نلحظ أن هناك من يقدم المتأخر، فيبدأ به، وفى ذلك مخالفة غير هينة وأثر غير طيب على الفرد والأمة، وإذا كان الناس قد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا فى السعى بين الصفا والمروة: نبدأ بالصفا أم نبدأ بالمروة ؟ فأجاب : نبدأ بما بدأ الله به، وقد بدأ الله تعالى بالصفا فى قوله: «إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما» فكانت البداية بالصفا إلى ما شاء الله، فإن علينا أن ننظر فى غير هذه الآية من الأمور التى بدأ الله بها، كى نبدأ بما بدأ الله عز وجل به، ومن ذلك قول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة» فبدأ ربنا تعالى بنفس الإنسان قبل أهله، أى عليه أن يقى نفسه من جهنم قبل أن يقى منها أهله، لأنها أولى بنصحه، واجتهاده، ولأن فى ذلك مزيد إقناع لأهله بما يعظهم به، إذا رأوه يفعل الخيرات، ويجتنب المنكرات، كان صادقا فيما يدعوهم إليه، فيتأسون به، كما قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتى مثله... عار عليك إذا فعلت عظيم
وقد تجد فى الواقع رجلا لا يصلى، ويأمر أولاده بأن يصلوا، أو يدخن، وينهى أولاده عن التدخين قائلا لهم: لا تقلدونى؛ فالتدخين وباء. لا شك أن من يصلى إذا أمر أولاده بالصلاة كان أمره مستساغا، وكذلك من لا يدخن إذا نهى أولاده عن التدخين كان نهيه أوقع، فإذا قدمنا المتأخر فنصحنا أهلينا بالمعروف، قبل أن ننصح أنفسنا سمعنا هذه العبارة التى تقال: ابدأ بنفسك، أو ترجمتها هكذا لو كان هذا الأمر خيرا لعملته، فالخير فيما بدأ الله تعالى به، ومن ذلك قول الله تعالى: «واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن» بدأ ربنا تعالى بعظة المرأة التى يخاف زوجها نشوزها، أى قبل أن يحدث النشوز، وهو بلا شك من حسن العشرة، ومن الرحمة، لكن بعض الناس يقدم المتأخر، فبمجرد أن يلحظ نشوزا من زوجته يضربها، الأمر الذى قد يترتب عليه وقوع النشوز حقا، وبعض الناس يدعى خلاف ما أنزله الله فيقول: أنا أعلم أنه لا يصلحها غير الضرب، وهذا أرعن أحمق، لأن الضرب نوع من القسوة، والقسوة لا تكون أولا إلا عند الحمقى الذين لا يعرفون تدرجا، ولا يدركون حكمة المراحل، التى تبدأ باللين، والرفق الذى ما وجد فى شيء إلا زانه، وما انتزع من شيء إلا شانه، ولن يكون هنالك من رفق إذا كان البدء بالضرب، ومن ذلك قول الله تعالى: «لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس» فبدأ ربنا بالصدقة، وهى أول ما يبدأ به من معروف، وفى الحديث: المعروف كله صدقة، وقد ينجح الإصلاح بين الناس من قبل المتصدق، لأن الناس يحبونه، وقد يكون التخاصم بين فقراء، هو ينفق عليهم، فيعملون له (خاطرا) ويستجيبون لدعوته إلى الصلح بخلاف غيره، ومن تعود الصدقة كان إصلاحه بين الناس أنجح، لأنه قد يترتب على الصلح أن يدفع دين مدين، أو يسدد عن أحد غرامة، ومن أمر غيره بصدقة كان أمره أوقع وأنجح إذا كان هو نفسه من أهل الصدقة، فالخير كل الخير فيما بدأ الله به.
شهوة العبادة المجانية
الأحد:
من خلال تقديم المتأخر نرى مدى تمكن شهوة العبادة المجانية فى كثير من الناس، ألا ترى إلى انتشار هذا التقديم فى قولنا: الكلمة الطيبة صدقة، صباحا ومساء، وذلك لأن الكلمة الطيبة مجانية لا دفع فيها لمال، والكلمة الطيبة آخر الصدقات، كما جاء فى حديث: على كل مسلم صدقة، قال الناس: فإن لم يجد يا رسول الله؟ قال: يعمل ويتصدق، فينفع نفسه ويتصدق، وظلوا هكذا يسألون وهو صلى الله عليه وسلم يجيب حتى انتهى إلى قوله: والكلمة الطيبة صدقة، فالكلمة الطيبة صدقة المسكين غير القادر على بذل الصدقة الحقيقية التى تدفع جوعا، وعطشا، وتجلب كسوة ودواء، وتسد دينا، وتصلح فاسدا، وترفع أذى، وتبنى مدرسة، وتقيم مصنعا، ولا يعنى هذا أن القادر على الصدقة بالمال يقول الكلمة الخبيثة، وإنما الكلمة الطيبة قرينة العمل الصالح، فالقادر لا يمن ولا يؤذى من تصدق عليه، وإلا بطلت صدقته، وتبخر ثوابها، لقول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى «فهو يتصدق بالمال، ويتصدق كذلك بالكلمة الطيبة ؛ لأن الله عز وجل لا يضيع أجر المحسنين، فمن لم يملك المال كانت صدقته الكلمة الطيبة، ومن ذلك إشاعة الشكر باللسان والدعاء، لمن قدر على مكافأة من أسدى إليه معروفا، وفى الحديث يقول النبى صلى الله عليه وسلم : «من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تقدروا فادعوا له حتى تظنوا أنكم كافأتموه» أى اجتهدوا فى الدعاء له، أو تعلموا الدعاء الجامع الذى يحقق ما تهدفونه، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضى الله عنها: عليك بالكليات؛ قالت: وما الكليات؟ قال: قولى اللهم إنى أسألك الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله، ومما لا يخفى أن الناس إذا أقبل شهر الله ذو الحجة تنادوا وهتفوا بالصيام، مع أن الحديث الشريف يقول: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من عشر ذى الحجة « فقال النبى صلى الله عليه وسلم العمل الصالح، ومنه الصدقة خير العبادات، ومنه الإصلاح بين الناس، ومنه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومنه تعليم الجاهل، ومنه الصنع لعاجز، ومنه تدبر القرآن الكريم، والعمل بما فيه، ومنه زيارة المريض، ومنه رفع الأذى عن الطريق، ومنه التعاون على البر والتقوى، ومنه قيام الليل، ومنه صون اللسان عن الخوض فى أعراض الناس، والغيبة والنميمة، ومنه صلة الارحام، والصلة تكون بحسب حال الواصل والموصول، ومنه تهذيب الأولاد، وتربيتهم على مكارم الاخلاق، ومنه الإتقان فى العمل، والزيادة من الخير، وما أكثر العمل الصالح، لكنهم أوقفوه على الصيام، كأنه لا عمل صالحا فى هذه الأيام العشرة سواه، هى شهوة العبادة بلا غرامة، أو الرغبة فى العبادة المجانية، وما من شك أن الذين اطلعوا على السيرة النبوية المطهرة يعلم أن المسلمين جاهدوا فى سبيل الله كما قال تعالى بأموالهم وأنفسهم، لا بكلماتهم، فالكلمات للعاجز عن الدفع، ما قال عثمان رضى الله عنه للمسلمين الذين لم يستعذبوا ماء غير ماء بئر رومة: ربنا يفتح نفسكم على غيرها، بل اشتراها لهم، وما مر الصديق من قبل على العبيد والإماء وهم يعذبون بسبب دخولهم فى الإسلام، وقال لهم: أعانكم الله، أو أهلك الله عدوكم، وإنما اشتراهم، وأعتقهم، فصاروا ببذله أحرارا، وأنزل الله سبحانه فيه: «وسيجنبها الأتقى الذى يؤتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى» والعبرة فى تفسير القرآن العزيز بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أى سيجنب جهنم من يؤتى ماله يتزكى ابتغاء وجه الله تعالى، لا رياء وسمعة، فانظر كيف يكون ثواب العطاء، وتأمل أن المجانية فى هذا الدين لمن عجز عن الدفع، فادفعوا خيرا لكم.
 الرغبة فى الإبادة
الاثنين:
والأصل فى أى شيء أصابه عطب أن يستصلح، فإذا استصلح مرات، ولم يكن بد من إبادته كانت الإبادة، لكن أن نبدأ بالإبادة لأول عطب يمكن إصلاحه فليس هذا من الدين، ولا من الحكمة فى شيء، وكم من أناس خصوصا القادرين ماديا يتفلسفون قائلين: وعلى إيه وجع القلب، ارم، وهات جديد، وقد يكون الشيء القديم المعطل أو المعطوب خيرا من الجديد الذى يزعمون فيه راحة للقلب والدماغ شريطة أن يوجد الأستاذ فى التصليح الذى بسحر يده يعود الشيء خيرا مما كان، ويصبح خيرا من الجديد، ومن ثم علينا أن نهتم بأصحاب الصنعة، ونزيدهم تدريبا وخبرة، ولن أنسى عمرى كله أيام عملى أستاذا فى جامعة الإمام بأبها السعودية أنى خرجت يوم الخميس، وهو عطلة أسبوعية فى الصباح لأشترى التميس والطعمية لفطورى، وتوقف مساحات سيارتى فجأة، والمطر فى أبها صيف شتاء، واتجهت إلى طريق الحزام، وملت إلى كهربائى سيارات هندى، وأرهقنى طول اليوم فى محاولة إصلاح السيارة، يقول اشتر كذا، فأستأجر سيارة وآتيه بما طلب، ولم ينجح؛ فقلت له قبيل الغروب: أعد كل شيء كما كان، فلابد أن أنصرف الآن، ومضيت بها، ومن فضل الله أن توقف المطر حتى مضيت، وفى طريق الرجوع شاء القدر أن أجد على يمينى كهربائى سيارات، ووجدته مصريا، وعرفت أنه من أشمون منوفية، فحكيت له ما جرى لى من عذاب اليوم، فضحك، وقال ارفع الكبوت، فرفعته، فمد يده، وأخرجها فى ثوان معدودة، ورفع يده، وقال: شغل يا دكتور المساحات، ففعلت، فرقصت فوق الزجاج كما كانت، ومنحته أجرا كبيرا، وقد أبى أن يأخذه قائلا: لم أفعل شيئا، ولكنى أصررت إصرارا، وفى يقينى أنه لم يكن منى أجرا له، وإنما كان مكافأة له على مهارته، مثل هذا الصنايعى الماهر يجب أن يكافأ، حتى لا يختفى مثله فنضطر إلى رمى أشيائنا وشراء الجديد ؛ لأنا لم نجد من يصلحها، ونحن فى حاجة إلى الإفادة من روح ديننا فى هذا المجال، فالمرء يخطئ، والخطيئة فى الإنسان كالعطب فى الآلات والأجهزة، وبرغم عطب الإنسان بخطيئته لم يرمه الشرع، او يحكم عليه بالإعدام، بل وجهه إلى التوبة، وغسله بها من سابق خطاياه، فالتوبة النصوح تجب ما قبلها كما يجب الإسلام ما قبله، وكذلك إصلاح كل شيء، يجب البدء به، قبل أن نفكر فى إبادته فكما قالوا: آخر الدواء الكى نقول كذلك آخر الدواء الإبادة، ورمى كل نافع قبل النظر فى إمكانية إصلاحه، ولو ترسخت لدينا الفكرة فسوف تتوقف طلقات الطلاق السريع، والتسرب من المدارس، ونوفر أموالا كبيرة فى شراء جديد يمكننا الاستغناء عنه، بإصلاح ما لدينا، ومن قبل الإصلاح يجب أن نتعلم كيف نتعامل مع الأشياء حتى لا تعطب بسرعة.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة