د. هشام عطية
د. هشام عطية


يوميات الأخبار

حلاوة زمان ومستجدات الأوان

بوابة أخبار اليوم

السبت، 14 سبتمبر 2019 - 07:16 م

دخل الإعلام ليحل معضلة الذيوع وشيوع المعرفة ثم استسلم له البشر اعتمادا واحتياجا.

 بعد أن جلس أول جمهور لشاشة السينما فى حى الحسين القديم محدقا نحو الشاشة الأولى الكبيرة المضاءة، ومتابعا فى شغف وانبهار عظيمين الصور المتحركة المضاءة عليها، وذلك فى أول عرض لفيلم سينمائى إسمه مدام لوليتا يشاهدونه فى حياتهم ومدته فقط أربع دقائق أو تزيد قليلا وذلك فى العام 1919، وكان ذلك مبكرا تماما فى أوائل مراحل دخول السينما وشاشاتها مصر وذلك على أيدى الهواة ثم المحترفين من الأجانب المقيمين والمصريين، ولينقل الجمهور عينيه مأخوذا بين تلك الشاشة العريضة الكبيرة ثم وهو يتابع وجوه أبطال الفيلم وهم الممثل فوزى الجزايرلى المشهور بالمعلم بحبح وأسرته وممثلة تؤدى دور لوليتا بطلة الفيلم، وكلما انتقل الضوء مركزا عليهم وهم جلوس على مقاعد فى المسرح ارتفع صوت الجمهور مصفقا، وذلك عبر كشافات أعدها المخرج والمصور الأجنبى وبعد كل لقطة ظهور لوجوه أبطال الفيلم على الشاشة.
 الدهشة الطازجة الأولى..
هذا الحضور المبهج أجبر ممثلى أول فيلم سينمائى يعرض حينئذ من أبناء حى الحسين والأحياء المجاورة له على الحضور والتواجد - بناء على طلب الجمهور والمسوق والمنتج الإيطالى - فى كل يوم وفى كل عرض لمزيد من إمتاع الجمهور وإبهاره بأن تلك الخيالات المتحركة على الشاشة لها وجود بشرى حقيقى بينهم، حينها بدأ سحر السينما يستقر فى القلوب وربما منح ذلك بدايات التقليد المعروف بعدئذ بحضور نجوم الفيلم أول عرض جماهيرى له، هكذا انتقل مسرح فوزى الجزايرلى أو المعلم بحبح وأسرته الفنية من عمل مسرحى جوال إلى مرحلة السينما الأولى والبدايات، ومعه انتقل جمهور حى الحسين إلى شاشة السينما بديلا او بالتوازى مع مسارح الفرق الشائعة فى ذلك الحين.
كانت تلك الأفلام الأولى قصيرة المدة وفق طبيعة الإنتاج السينمائى حينئذ لكن المخرج فؤاد الجزايرلى يعرض لنا حكاية مهمة عن ذلك الزمان فى حوار له عرضته شاشة ماسبيرو زمان، وبطل الحكاية هو الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، ونلتقط عبر حواره إشارات خفية عن الفرص وصناعاتها، وعن أولئك المغامرين أو فلنقل من يلتقطون فرص التحول الصناعى من الأجانب المقيمين بمصر وقتئذ والذين حولوا السينما من مرحلة الهواية إلى حالة الصناعة.
فقبل ذلك الفيلم الأول فى حى الحسين القديم، كانت فرقة الجزايرلى تقدم عروضها المسرحية الضاحكة على مسرح صغير فى شارع قريب من مسجد الحسين بعد انتقالهم من الإسكندرية بفرقتهم المسرحية الجوالة، ووفق رواية الجزايرلى الإبن كان الفنان الكبير بعدئذ محمد عبد الوهاب يتسلل شغوفا ليعمل معهم ومن دون معرفة أسرته، ليشارك العمل فى المسرح طفل صغير مطرب، وبعدها يقدم فؤاد الجزايرلى الإبن الصغير أيضا فقرة غنائية كمنولوجست، حتى عرف عم محمد عبد الوهاب وأسرته بذلك فدخلوا المسرح وترصدوا صعود محمد عبد الوهاب ثم انطلقوا نحوه وكتفوه ونزلوا به فضحك الحاضرون باعتبار ذلك جزءا من العرض، كان المغامر الأجنبى ذلك المنتج والمصور الإيطالى ألفيزى أورفانللى حاضرا وهو وفق تعبير الجزايرلى يحمل معه آلة كبيرة لم يكن هو كطفل فى العاشرة وقتئذ يعرف ماهيتها - هى الكاميرا السينمائية المبكرة - يصور بها ماحدث واقترح على المعلم بحبح نقل هذا المشهد سينمائيا وعرضه على الجمهور.
جرى الإتفاق بديلا لذلك على سيناريو لفيلم قصير بطولة بحبح وممثلة تؤدى دور أجنبية تعجب بخادمها وتتزوجه وتفضله عن آخرين وهو فيلم «لوليتا»، وقد طاف بهم المنتج الأجنبى فوق عربة مختلف أنحاء حى الحسين يعلن عن عرض ذلك الفيلم الأول، وقد أخذ يمضى فى جولته فوق العربة الكارو يصور أيضا مايقابله من المحلات وحركة الناس فى الشارع ليعرض كل ذلك مع الفيلم على ذلك الجمهور الأول الذى حضر العرض وبوغت وهو يرى نفسه والمحلات والشوارع على شاشة متحركة.
صنع ذلك الخيال الأول للسينما ونقلها خطوة واقعية ليعرف الناس ثم يألفون فن المحاكاة والمخايلات الدرامية ولتصبح السينما ذلك الفن السابع الشاهق العظيم.
تبقى من ذلك لدى عموم وجمهور المشاهدين والمتابعين للشاشة ما رسخته من قبل صناعة الصحف باعتبارها الوسيلة الإعلامية القائمة والمستقرة فى مجال نقل الأحداث ونشرها، حيث استقر فى الوجدان العام أن من يظهر على تلك الشاشات من الناس والبشر وحتى المبانى والكائنات قد صار معروفا بالضرورة وموضع ذيوع مجتمعى جدير بالتقرب منه، كنوع من التعلق بالشهرة هو من ما سوف يعرف فى التاريخ التالى للتحول بالمشاهير أصحاب التريندات والمتابعات ذات الملايين.
وانتقل مخايلة وصورة مايراه الناس على صفحات الصحف والشاشات ليمتزج مع التصور الذهنى لدى عموم الجمهور بشأن الأشخاص فاستقرت ملامح المشاهير وخصائصهم لدى الجمهور وفق طبيعة ماينشر وأخبار ما يرونه معهم عبر ذلك.
 الثلاجة والبوتاجاز وذلك «الحدق»..
ما صنعه أيضا ذهاب وجلوس البشر مهتمين شغوفين أمام الشاشة الكبيرة التى صارت مع الوقت صغيرة وداخل البيوت، ثم حالة الاندماج عاطفيا ووجدانيا مع قصص الشاشات وما حدث بالموازاة فى الواقع من توظيف ذلك داخل آلة الصناعة الإعلامية و، التى صارت تنمو وتستجيب للاحتياجات الجماهيرية أو وفق التعبير اللطيف « مايطلبه الجمهور» والذى بالطبع سيكون من حقه أن يفرض إنتاجيا ذوقا ما أو يتم تجريب تفضيلاته لينتهى ذلك بشعار « الجمهور عايز كده»، فبعد عصر كانت الحرف والصناعات اليدوية محدودة الإنتاج نخبوية السعر محدودة التوزيع دخلت البشرية عصر الصناعة الضخمة، حيث مصانع تنتج ألاف الأكواب الزجاجية يوميا، وأخرى تنتج ملايين قطع الصابون والمنظفات ثم ملايين أمتار من أقمشة ومنسوجات، وكان لابد أن يوظف ذلك الإنبهار بالشاشة ومن يظهر عليها لبناء حاجات استهلاكية لدى المشاهدين أو حتى تعريفهم بالسلع والخدمات المتاحة، لضمان تصريف ما تنتجه المصانع، فمثلا أتذكر فى طفولتى ذلك الإعلان الذى يسعى لإدخال فكرة الثلاجة كمقوم منزلى لاغنى عنه فى عصر لم تكن كذلك بعد لدى كثير من السكان فى مصر وكان إعلانا بسيطا تقول جملته الغنائية « مين دا اللى مايعوز تلاجه وتليفزيون وراديو بلا حداجه».. يعنى الحاجات دى اللى من الناس مش عنده حاجه منها وفق الإعلان يبقى تقريبا كائن غير حى ولا يعيش عصره، وأى كلام غير كده وفق الإعلام يبقى مكر و»حداجه» على الفاضى وفق تعبير الإعلان وقتئذ.
عملت الإعلانات على التشييد السريع لقوائم الإحتياجات لدى الجيل الجديد الناشئ وقتئذ، وقد شاهدنا كيف تم تقديم أول ساندوتش هامبورجر إعلانيا لأول فرع سلسلة محلات وجبات سريعة يدخل مصر فى السبعينات، حيث قدم ككائن غذائى أسطورى الشكل يستدعى المقارنة فى الذهن فورا لدى الشباب الصغير بساندوتش الفول الملفوف أحيانا فى ورق الجرايد وورق كشاكيل الطلاب المستعملة والمملوءة كتابة بالجاف أو الحبر.
عمل الإعلام متضامنا مع الإعلان على بناء الطموحات فى الإستهلاك المتزايد الذى يتخطى أحيانا احتياج البشر المتعارف عليه فى مرحلة ما ليثبت ذلك كمقوم حياة فيما يلى ذلك من أزمنة، حتى لتكاد تفاصيل الحياة التى عرفها البشر ملايين السنوات من قبل ومضت تعايشا نسبيا بلا مشاكل، قد صارت هكذا فى غير وجود الجديد من المنتجات والسلع المعلن عنها وبراعة الإعلان فى بيان ما تضيفه للفرد الذى يقتنيها من قيمة اجتماعية أو وجاهة أو تميز نسبى فى عيون من يراه، أصبحت هكذا غير عادية ولا مقبولة بل وغريبة.
وصار الإعلان مشوقا جذابا جميلا مسليا يحفظ شعاراته ونغماته الأطفال ليتسلل رويدا يضيف للصناعة الإعلامية مواردها الإنتاجية وأرباحها أيضا، بصرف النظر عما تلى ذلك من صناعات إعلامية تبنتها كثير من الدول ومنحت ثمارا فى البدايات ثم تضخمت وترهلت واستكانت للدعم المجانى الدائم فقل مع الوقت إبداعها ونضب أيضا إعلانها ومضت فقط بقوة القصور الذاتى. صنع الإعلان سحره الذى يشبه سحر بدايات السينما، حتى أنه لتطالعك الآن إعلانات القهوة والنسكافيه لتظنها من فرط وعذوبة تقديمها دعائيا قد صارت من لزوميات العيش، بل إنها مع الوقت تصنع التأثير الوجدانى مكتملا عند الجمهور لتسمع جملا من مثل « لسه مش مركز لإنى ماخدتش فنجان قهوة الصبح أو ما شربتش كوباية النسكافيه»، فى هذا السياق يتم إزاحة المشروبات الشعبية المتوارثة لتحل محلها ماكينة إنتاج المشروبات معولمة الماركات، وفى خضم صناعة كوكبية صار الإعلان جزءا منها وتعبيرا عن أحد وجوهها ومقوم بقاء نسبى، حتى أنه قد صار ما يشبه اليقين بأن من لم يعلن فى خضم منافسة السلع والخدمات والعلامات التجارية بين أقرانه فقد غاب أو اكتفى راضيا أو مضطرا بعمل ضيق النطاق ومحدود القيمة السوقية.
 عندما يريد الجمهور ذلك كذلك..
حينما دخل الإعلام والترفيه وصناعتهما معا مندمجين حياة البشر استقرا وصارا بعضا من مألوفات العيش وأحيانا ضروراتهما، فمنذ اللحظة الأولى التى استجاب فيها البشر لشغف معرفة مايجرى فى العالم الواسع خارج حدود حواسهم الطبيعية الشخصية وقدرتها على المتابعة والمعرفة المباشرة، ونتيجة تشابك وتعقد صلة الفرد بمؤسسات وأماكن الكون، دخل الإعلام ليحل معضلة الذيوع وشيوع المعرفة ثم استسلم له البشر اعتمادا واحتياجا فاستقرت معادلة ليس لها شروط موثقة لكنها صارت من طبيعة العصر، هى أن ما تعرفه ونطاقه معرفتك به محكوم بما يصل إليك عبر الصحف والإذاعات والقنوات، ثم عبر ما ينقله عنهم جميعا مدعيا أنه يخصه ذلك «المتطفل» الجديد المعروف بالسوشيال ميديا خاصة الفيس بوك وغيره، لدرجة إنه إذا ما تم إخلاء ساحته مما تنشره وسائل الإعلام وروابطها والنقاش الدائر بشأنها لصار فضاء منعزلا لحوارات بين مجموعة معارف وأصحاب ينقلون تحيات ويشاطرون عزاءات، لكن ذلك الكائن المتطفل أخذ من محتوى الميديا ومضى ينمو متسلقا على شجرتها ليعلو عليها ويربح منها وهى فى سبات منه عميق حتى استقرت هيمنته.
ودخل الإعلام هكذا بين الناس وأوجه الحياة المختلفة ليكون حواسهم الجديدة التى عبرها ومن خلالها فقط يعرفون، صار شيئا يشبه نظارة القراءة التى مع العمر لن تتمكن من أن تقرأ سطرا أو جملة كاملة واضحة المعنى من دونها.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة