عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

وجه آخر من أوجه جشع الشركات

بوابة أخبار اليوم

السبت، 14 سبتمبر 2019 - 07:23 م

عبدالله البقالى

زحمة الانشغال بالقضايا الكبرى، التى تقض مضاجع الرأى العام الدولى، والاكتظاظ الشديد، الذى يطبع جداول أعمال المنظمات، والحكومات والهيئات، لا يتيح ولو قليلا من الفرص، للاشتغال على قضايا وملفات قد لا تقل أهمية، وخطورة عن تلك التى أشرنا إليها، مما يزيد من حجم مخاطرها، التى تتراكم بسبب عدم الاهتمام بها.
فقد نبهت دراسات وتقارير وأبحاث متعددة، سنستعرض كثيرا منها فى هذه المعالجة، إلى قضية تشكل خطرا حقيقيا على مصير التنوع البيولوجى فوق البسيطة، ويتعلق الأمر بالتراجع المهول فى أعداد الحشرات، خصوصا منها ما يمكن أن نسميه بالحشرات النافعة. وكثير من الناس قد لا يتفاعل لأول وهلة مع التنبيهات الكثيرة، الصادرة عن العديد من الجهات المختصة فى هذا الشأن، بدعوى أن الأمر يتعلق فقط بالحشرات التى تتسبب للبشر فى العديد من المتاعب والأضرار، وتلحق خسائر فادحة بالمحاصيل الزراعية، لذلك فإن الحقيقة، التى يجب أن تمثل منطلقا وحيدا لمناقشة موضوع هذه القضية، تكمن فى الإقرار بأن وجود الحشرات أمر ضرورى لضمان استمرار التنوع البيولوجي، ولوجود الحياة نفسها فوق كوكب الأرض، لأن الحشرات تساهم فى تحقيق التوازن البيئى الطبيعى. وإذا كانت أنواع هذه الحشرات تتعدى 900 ألف نوع فوق كوكب الأرض، وهى تمثل ثلث الكائنات الحيوانية، فإن لكل نوع دورا، ما يقوم به لاستمرار التوازن الطبيعى، فهناك حشرات تتغذى على الحشرات الضارة، وأن استمرار وجود هذه الحشائش يقضى على حياة حشائش أخري، تمثل مصدر تغذية للإنسان والحيوان، كما ان هناك حشرات تتغذى على أنــواع أخرى من الحشرات الضارة، وأخرى تتغذى على المواد العضوية للنفايات البشرية والحيوانية، والتى يمثل وجودها خطرا حقيقيا على حياة الإنسان والحيوان، وأن هذه الحشرات تتكلف بالتقليل من هذا الخطر أو القضاء عليه بصفة نهائية. ويهمنا فى هذا المجال الحديث عن الحشرات النافعة من قبيل النحل والفراشات ودودة القز، التى تساهم بقسط وفير فى ضمان وتوفير جزء من الغذاء والكساء للبشرية جمعاء.
أمامنا فى هذا الصدد العديد من المراجع المهمة التى تبين حجم المخاطر التى أضحت تهدد مصير وحياة هذه الحشرات، نبدأها بدراسة نشرت فى ملحق «علوم وطب» ضمن أحد أعداد صحيفة (لوموند) الفرنسية، الصادرة فى نهاية الشهر الماضي، واستندت على ما تضمنه كتاب متخصص صدر حديثا بالديار الفرنسية اختار له صاحبه عنوان « وأصبح العالم صامتا «، وأكدت هذه الدراسة أنه منذ بداية استعمال الجيل الجديد من المبيدات ضد الحشرات، فإن أعداد الحشرات الطائرة تقلصت بنسبة ثلاثة أرباع، وأن هذه المبيدات الجديدة تقضى نهائيا عن الملقحات.
و ذكرت الدراسة بالإشارة إلى أن السلطات الأوروبية المختصة، والمسئولة عن الأمن الغذائى فى القارة العجوز، نبهت منذ سنة 2012 إلى أن القوانين الأوروبية المتعلقة باستعمال المبيدات، لم تعد قادرة على ضمان حماية الحشرات الطائرة الوحشية، من قبيل النحل والفراشات بسبب عدم قدرتها على مواجهة المخاطر الكبيرة، المترتبة عن استعمال الجيل الجديد من المبيدات.
دراسة أخرى صدرت خلال سنة 2017 بمجلة (PLOS ONE) أكدت أن أعداد الحشرات الطائرة تراجعت بنسبة تجاوزت 75 بالمائة، خلال الفترة الممتدة من 1989 إلى 2016 فى حوالى 60 منطقة محمية فى ألمانيا لوحدها. هذه الدراسة التى أعدها أكثر من 20 عالما متخصصا ونشرت فى أكثر من 250 صفحة، يوضحون فيها أن هذا التراجع المهول حصل بسبب عوامل طبيعية، المناخية منها على الخصوص، وبسبب طبيعة الأنشطة البشرية، ولكن حصل أيضا بسبب الاستعمالات المفرطة للجيل الجديد من المبيدات. أما تقرير آخر، صادر عن الأكاديمية الأوروبية للعلوم حول نفس الموضوع، فإنه يؤكد أن استعمال كمية قليلة وبنسبة ضعيفة جدا من المبيدات الجديدة، تكون له عواقب وخيمة جدا، ليس فقط على حظيرة الحشرات، بل أيضا إن التأثيرات الخطيرة تصيب الفراشة المائية، التى تتلوث بسبب هذه المبيدات، والمياه المتدفقة من هذه الفرشة هى التى تستعمل فى الرى وفى شرب الحيوانات، ناهيك عن التأثيرات الخطيرة لهذه المبيدات على طبيعة الهواء، الذى يدخل إلى رئات الأفراد، وما قد يترتب عن ذلك من أمراض وعلل، بيد أن فريقا علميا من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا متخصصا فى التسمم أكد فى دراسة أنجزها «أن مخاطر التسمم فى الإنتاج الفلاحى الأمريكى تضاعفت خلال الفترة الفاصلة ما بين 1997 و2014 بحوالى خمسين مرة بسبب الاستعمالات المفرطة للجيل الجديد من المبيدات».
و الأكيد أنه فى إطار تجسيد الإدراك الفعلى والحقيقى لطبيعة هذه المخاطر وأحجامها، سارع الاتحاد الأوروبي، من خلال إحدى لجانه التقنية المختصة إلى إصدار قانون جديد قبل سنتين، وصف بالمتشدد يتعلق بحماية التنوع البيولوجي، وخصوصا بحماية النحل، الذى لم يعد تراجع أعداده وانخفاض منتوجه من العسل يخفى على أحد لأسباب كثيرة، لكن أهمها يتمثل فى استعمال الجيل الجديد من المبيدات فى المحاصيل الفلاحية، حيث ما أن تشرع النحلة فى امتصاص رحيق منتوج معالج بالمبيدات حتى تلقى حتفها.
طبعا، لا بد من الحديث عن الزاوية الأخرى لهذه القضية،إذ أن الإفراط فى استعمال الأجيال المتعاقبة من المبيدات، له أهداف مالية صرفة، إذ أن هواجس الربح السريع والوفير تدوس كثيرا من مبادئ وأخلاقيات الفلاحة والزراعة، فالسعى إلى إنضاج المحصول قبل موعده الطبيعى، خصوصا فى قطاع الفواكه لضمان تسويقه بأسعار مرتفعة، والتحايل من أجل تكبير حجم المنتوج، والزيادة فى منسوب الحلاوة فيه، وإعطائه اللون المغري، كلها حيل وأشكال نصب تستخدم فيها المبيدات الجديدة لمراكمة الأرباح. ناهيك عن أن علماء التغذية يؤكدون أن الاستعمال المفرط للمبيدات يفقد المنتوج مقوماته الغذائية من فيتامينات وبروتينات وغيرها.
و لقد أدركت الشركات العملاقة، المنتجة لهذه المبيدات حجم المخاطر، التى يمثلها تنامى الوعى بالأضرار الخطيرة المترتبة عن استعمال المبيدات، وهذا ما يفسر تمويلها لحملات إعلامية ضخمة، لمناهضة السياسات الأوروبية الجديدة،بشأن التصدى لهذه المبيدات، كما حدث مثلا، فى معارضتها الشديدة للدليل، الذى أعده الاتحاد الأوروبى وألزم به الجميع، باعتماده أثناء استعمال كثير من أنواع المبيدات ضد الحشرات الطائرة.
إنه جشع الشركات العملاقة، التى تتاجر بسلامة وصحة وحياة الأفراد والجماعات، لا يهمها فى كل ذلك، إلا سقوف الأرباح المالية.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة