د. محمد السعدنى
د. محمد السعدنى


فى الفكر والسياسة

افتح صندوقك ليغمرك النور

محمد السعدني

الخميس، 10 أكتوبر 2019 - 07:55 م

«لأكثر من ثلاثين عاماً اعتاد متسول أن يجلس على جانب الطريق، وفى أحد الأيام كان رجل غريب يتمشى بالقرب منه، تمتم المتسول وهو يمد قبعته: هلا أعطيتنى بعض النقود؟ قال الغريب: لا أملك شيئاً أعطيك إياه، وبادره متسائلاً: ما هذا الذى تجلس عليه؟ رد المتسول: لا شيء إنه صندوق قديم أجلس عليه منذ زمن طويل. سأل الغريب: هل نظرت يوماً ما بداخله؟ فأجاب: لا، ماذا تقصد من ذلك؟ لا يوجد شيء بداخله. لكن الغريب ألح عليه أن يلقى نظرة. فتح المتسول الغطاء، وفى دهشة وتعجب لم يصدق ما رآه، لقد كان الصندوق مملوءاً بالذهب».
هذا ما كتبه «إيكهارت تول» فى الفصل الأول من كتابه الشهير «قوة الآن The Power of Now»، ثم أكمل يقول: أنا هو ذلك الغريب الذى لا يملك شيئاً يعطيك إياه والذى يقول لك انظر ما بالداخل، ليس داخل الصندوق الذى ذكرته لك فى القصة الرمزية أعلاه، لكن فى مكان أقرب إليك بكثير، انظر داخل ذاتك فهى صندوقك الذى قد يكون مملوءاً بالذهب. ستقول ولكنى لست متسولاً، أعلم ذلك، لكنك مثل كثيرين من أولئك الفقراء الذين لم يجدوا غناهم الحقيقى الذى هو الفرح المشع للوجود وللحياة والسكينة الثابتة التى تأتى معه من الأعماق، إنهم فقراء حتى لو ملكوا الثراء المادى العظيم، لأنهم راحوا ينشدون فتات المتعة والإشباع والأمان والحب وتحقيق الذات فى كل مكان أنى كانوا، بينما هم يحملون بدواخلهم التى لم ينظروا إليها كنزهم العظيم الذى يعطيهم كل هذا وما لانهاية له وأكثر مما يتصورون. انتهى الاقتباس والترجمة بتصرف.
هذا الكتاب نشر بالإنجليزية العام 1997 للمحاضر والكاتب الكندى الموطن الألمانى المولد «إيكهارت تول» الذى واجهته أزمته الخاصة فى البحث عن الذات وتعقدت حياته حتى فكر فى التخلص من عبء وجوده، وراح يبحث عن الخلاص فى اليوجا وفلسفة «الزن» التى تعنى التأمل والتفكير والوعى بالذات، وهى فلسفة استحالت كما ديانة فى الصين والهند واليابان وكوريا، وانتقلت منها كصرعة روحية فى محاولة لتجديد «اليوجا» كما عرفها الحكيم الهندى «بوذا» فى عمق التفكر والتجرد والزهد. والزن تأخذ فى أدائها من بوذا جلسته الشهيرة، فعن طريق هذه الوضعية توَصَل بوذا إلى حالة الاستنارة والحكمة. واهتدى صاحبنا فى رحلته إلى مفاهيم التنوير الذاتى والروحى التى راح يحاضر عنها ويكتب هذا الكتاب «قوة الآن» وآخر بعنوان «أرض جديدة».
ذكرنى بالكتاب صديقى الدكتور عاصم ضيف أستاذ وعالم الرياضيات الشهير ابن الدكتور شوقى ضيف رحمه الله الكاتب والأستاذ والأديب ورئيس مجمع اللغة العربية الأسبق. كان عاصم مأخوذاً بشخصية الممثلة التونسية «هند صبرى» التى تبدت فى حلقة تليفزيونية غزيرة الثقافة واعية نابهة، وفى رد عن سؤال أشارت إلى كتاب إيكهارت تول، وكتاب آخر مما قرأته حديثاً. أرسل د.عصام لى «واتس آب» عن دهشته وإعجابه بالممثلة المثقفة وذكرنى بالكتاب الذى استعرضنا قطوفاً منه معك اليوم ونكمل فى مقال آخر عنه بإذن الله. ودون أن أدرى رحت أعقد مقارنات تلقائية عن ممثلينا ومن يطلقون عليهم «فنانين» وبت ليلة حزينة، إذ طفر إلى ذهنى من هذه الفئة المباغتة لحياتنا الثقافية والفنية والاجتماعية نماذج تدعو للحسرة والألم.
لقد فتح د.عاصم ضيف علىّ صندوقاً آخر من الشجن على ما آلت إليه حياتنا وما نكبنا فيه من أعمال وأشخاص وصروف وأحوال، لكأنه دون أن يدرى فتح صندوق «باندورا» حيث كل شرور العالم إلا واحدة. ولمن لا يعرف فباندورا هى تلك الجميلة فى الأسطورة الإغريقية التى أمر «زيوس» كبير الآلهة بإرسالها للأرض وحملها بكثير من الهدايا ومنها جرة أمرها ألا تفتحها إلا بإذنه. لكن فضولها أخذها لفتح الجرة أو الصندوق، لتخرج منه كل الشرور التى عرفتها البشرية، ولما تداركت الأمر لبشاعة ما رأت وأغلقت الصندوق لم يبق فيه، إلا خصلة واحدة هى فقدان الأمل. فبالأمل افتح صندوقك المليء بالذهب والغنى ليغمرك النور، وأغلق ما عداه من شرور.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة