إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


بالشمع الأحمر

الخروج من القمقم!

بوابة أخبار اليوم

الأربعاء، 16 أكتوبر 2019 - 08:37 م

 تتعدد الروايات لكن النهاية واحدة، فقد دفع الشاب حياته ثمنا للدفاع عن حق الفتاة أن تتحرك آمنة. ليس مُهما أن يكون قد دخل فى مناوشات كلامية مع المعتدى ثم مضى، أو عجز عن مواجهته فسكت وعاد إلى البيت. المهم أنه رفض فى النهاية أن يكون شيطانا أخرس، ولجأ إلى السلاح الوحيد الذى يملكه ضعيف الحيلة.. الكلمة! أطلق» هاشتاجه» الذى يُندّد بمن يضرب فتاة، ولم يعرف أنه كان يكتب شهادة وفاته!
أصبح محمود البنا بطلا.. لكن بعد رحيله، ليكشف واحدا من أهم أخطائنا المجتمعية، وهو السكوت على الخطأ، فبمجرد أن أصبح القاتل خلف القضبان تكشّفت خطاياه السابقة، التى أقنع الكثيرون أنفسهم بأنها «طيش شباب»، كى لا يعترفوا بعجزهم عن مواجهته. وهكذا كان التصاعد الدرامى منطقيا، فقد ترعرت الخطايا الصغيرة لتتحول إلى جريمة كبرى، وبدلا من أن نشعر بالخزى بدأنا لعبتنا الوحيدة التى نُتقنها، وهى الإدانات اللاحقة، وكان طبيعيا أن تختلط الحقائق بعد ذلك بالحكايات المُختلقة.
انشغل الغالبية بتفاصيل الواقعة ولا ألومهم، وحاول البعض إضفاء عمق على مناقشتهم للجريمة، فوجهوا أصابع الاتهام إلى أفلام السينما، التى تتبنى نماذج بشرية تُحقّق أحلامها فى العمل الفنى عبر البلطجة، ويحصد أبطالها الثروات على أرض الواقع. منطق يبدو وجيها، لكن ألم تكن هذه النماذج حاضرة دائما فى تاريخ السينما المصرية والعالمية؟ كلنا مارسنا قوتنا المفرطة فى أحلام يقظتنا، انطلاقا من صورة البطل الذى لا يُهزم فى فيلم ما، وغالبا استلهم أجدادنا خيالاتهم المُشابهة من السير الشعبية، ولا أعتقد أن كثيرين منا كانوا يهتمون فى أحلامهم بتحقيق العدالة المُطلقة، بل يقتصون من أعدائهم بغير رحمة، حينما يتيح لهم الخيال القدرة على البطش! الجديد فى ظنى هو أننا أمام جيل يخلط الخيال بالواقع، فإعجابه بنجم سينمائى جعله يعتبر ما يحدث على الشاشة سلوكا يُحتذى به، وبدأ تفعيل الخيال على أرض الواقع، متجاوزا أحلام اليقظة التقليدية التى طالما شفت غليل الأجيال السابقة!
أخطر ما استوقفنى أن جريمة القتل لم تكن فى ذروة المشكلة، بل جاءت بعد إطلاق» شهيد الشهامة» للهاشتاج، أى أن القاتل لم يتحمّل وقع الحروف، واعتبر أن طعنة الكلمات أقوى من أية لكمات تلقاها فى مشاجرات سابقة، فخطط لجريمة نفذها مع اثنين من شركائه بدم بارد، ليمضى بذلك فى سياق مجتمع أصبح يضيق بالحروف، ويقابلها بتشنجات تطالب بسجن مبدع لأن أحد أعماله تضمن وجهة نظر تخالف المألوف، بل يصل الأمر فى بعض الأحيان إلى شروع فى القتل أو حتى اغتيال فعلى، وفرج فودة نموذج حاضر دائما مع كثيرين غيره فى منطقتنا العربية. وأزعم أننا جميعا نمارس القتل المعنوى بدرجات متفاوتة، وإذا كان راجح( القاتل) قد قضى بالفعل على خصمه، فكلنا نشبهه فى تعاملنا مع أية كلمات لا تُعجبنا، غير أن ردود أفعالنا تتفاوت، ويكتفى غالبيتنا بالعصبية، لكن هناك من يتمنى فى قرارة نفسه القضاء على من يخالفه الرأى. لن أدعى المثالية وأستثنى نفسى، فكثيرا ما ضبطتُ نفسى مُتلبسا بالانفعال الحاد فى مناقشاتى، لدرجة الغضب من صاحب الرؤية المضادة، رغم أننى أتشدق دائما بأهمية حرية التعبير.
مات محمود لكنه أيقظ فى نفسى شجنا يتجاوز حد التعاطف معه، لأن غيابه جعل مشكلاتنا المُزمنة أكثرحضورا، وإذا أردنا القصاص له فلابد من وقفة حقيقية مع أنفسنا، تحمينا من» شياطين راجح» المختبئة فى صدورنا، فى انتظار أية فرصة للخروج من القمقم!

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة