محمد عبدالفتاح
محمد عبدالفتاح


كل يوم

الخرتيت ومحصل القطار

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 31 أكتوبر 2019 - 07:44 م

ليس أكثر إثارة للنفس البشرية من فزع يثيره سؤال وجودى مفاده: أى قدر تعس جعل قصة حياة شاب، جاء إلى هذه الدنيا دون أن يستشيره أحد، تتلخص فى مشهد فر فيه من الفقر إلى الموت دهسا، لأنه لم يكن يحمل ثمن تذكرة قطار يركبه علية القوم ووجهاؤه، علماً بأنه صعد إليهم فى الأساس ليستعطفهم من خلال بيع ما يمكن أن يعود عليه ببضع جنيهات يسد بها رمقه.
من عالم اللامعقول وُلد هذا المشهد، وإذا صحت رواية من حضروا الواقعة، عن المحصل الذى أجبر الشاب على القفز من القطار بينما كان يسير بأقصى سرعة، وإذا صح ما ورد عن عدم اكتراثه لفعلته الشنعاء وتعقيبه على قتل نفس بشرية بدم بارد، بقوله « فى ستين داهية»، فنحن بحاجة إلى طرح سؤال أعمق:» هل حقيقة، أن هذا العالم قد أدير يوماً ما من قِبل البشر؟».
هذا السؤال عثر عليه فى دفتر مذكرات الأديب الفرنسى العالمى يوجين يونسكو عام 1940، أى قبل 19 عاما من كتابته مسرحية Rhinocéros «الخرتيت».
تجرى أحداث هذه الكوميديا المرعبة فى مدينة فرنسية صغيرة مغمورة كانت فى طريقها إلى الجنون، حيث يشهد سكانها عدداً من الخراتيت تتجول فى شوارع مدينتهم بشكل فوضوى صاخب، مما يعطى انطباعاً أنها هاربة من حديقة حيوانات، لكن الحقيقة التى تتضح لاحقاً، هى أن سكان هذه المدينة أنفسهم كان قد نمت على جباههم فجأة قرون طويلة، وتصلبت جلودهم واستحالت سحنة بشرتهم إلى لون أخضر داكن، ومسخوا جميعاً، واحدا تلو الآخر، إلى قطيع من الخراتيت يدهس فى طريقه أى شىء، ويعيث فى شوارع المدينة وبيوتها فسادا. كان يونسكو يرمز إلى جيش هتلر النازى الذى اجتاح فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، وإلى الخونة من الفرنسيين الذين تعاونوا معه حتى صاروا بمثل قبح المحتل وقذارته. والمفارقة أن كل من أخذ على عاتقه محاولة التصدى بجدية لظاهرة الخرتتة، فشل بامتياز بل أنه هو نفسه تحول إلى خرتيت باعتبار ذلك الطريق الأسهل للتخلص من أعباء أخلاقية والتزامات إنسانية.
استخدم يوجين يونسكو الخرتيت كمجاز للوحشية المتأصلة فى الكائن البشري، لا سيما أولئك الذين تبلدت مشاعرهم وتنازلوا طوعا عن آدميتهم.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة