هالة العيسوى
هالة العيسوى


من وراء النافذة

آى آى

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 31 أكتوبر 2019 - 08:02 م

 

بالتأكيد لم يكن الشاب المكافح محمد عيد شهيد التذكرة فى القطار رقم 934 يتنبأ بأن ينصب سرادق لعزائه بهذه السرعة فهو بالكاد يعبر عقده الثالث. وبالطبع لم يكن يحلم بأن يقام له السرادق بهذه الفخامة والأبهة على مستوى السبع نجوم، فهو يجنى قوت اليوم بشق النفس ولن يتوفر لدى عائلته ما يمكنها من الاحتفاء بعزائه، وهو ليس "السيد الوزير" ذلك الصعلوك الفقير فى "فيلم آى آى" الذى قامت ببطولته فى التسعينات الفنانة ليلى علوى. الذى عاش عمره يحلم بجنازة مهيبة يحضرها الوزراء والكبراء. لم ير محمد فى أفضل أحلامه أن يمشى فى جنازته ناس بتلمع وتفوح منها رائحة العطور الفاخرة، ناس كهؤلاء الذين يراهم من ركاب قطار الـ VIP. فهو ليس إلا بائعا بسيطا يصنع الميداليات ويتقافز بين عربات القطارات ليبيع قطعة أو قطعتين يهبط بعدها مطمئناً راضياَ مرضياً.
أراه فى نعشه يتلفت حوله ويتساءل من كل هؤلاء؟ أمازلت فى عربة القطار وهؤلاء هم ركابه؟ أهذه جنازتى حقاً وهذا عزائى؟ ما الذى أتى بكل تلك الناس الفواحة؟ وما الذى أتى بى إلى هنا فى القبر الآن؟ا
أظن لو كان بعض من ركاب القطار رقم 934 اشتروا من هذه الميداليات التافهة من الشاب محمد عيد "شهيد التذكرة" وزميله أحمد سمير اللذين يقومان بتصنيعها ولن أقول تبرعوا بثمن التذاكر كما يقول آخرون، لتغير الموقف ولا أقول القدر أو المصير. كلماته الأخيرة قبل أن يقفز إلى حتفه تشى بإحباطه وخذلانه "هو القطر ده مفيهوش رجولة؟" لا أظنه كان يقصد أن ينقذه أحد من تلابيب الكمسارى بالتبرع أو تسول ثمن تذكرة، ولكنه قصد فى ظنى الشراء والمكسب الحلال بعد جهده فى صناعة تلك الميداليات، كان يتمنى أن يفرح بتسويق إنتاجه ورؤيته فى أيدى الناس ولو من باب المجاملة أو جبر الخاطر.
فى طفولتى وصباى أتذكر أبى رحمه الله عائدا إلى المنزل حاملا فى جيوبه أشياء صغيرة تافهة مما يستعمل فى المنازل دبابيس، مشابك، أستك، بنس للشعر، كميات هائلة من الخضر. فى كثير من الأحيان لم تكن لنا حاجة بها ولم نطلبها، كنت أسأله وأمى فى اندهاش وأحيانا بغضب عن سبب شرائه لتلك التفاهات الزائدة عن الحاجة من الباعة الجائلين فى حين أنه بمقدرونا ابتياع ما نحتاجه فقط من المحلات فيقول: إنها "الحسنة المخفية"! ويفسر لنا تصرفه المثير بأن هؤلاء الباعة يسعون وراء رزقهم يكدون ويجتهدون ويغامرون ويهربون أحيانا من ملاحقة الشرطة لتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة لأسرهم يرغبون فى المكسب الحلال بلا تسول ولا نطاعة وكان أبى يتعجب من حماس الشرطة فى ملاحقة الباعة الجائلين وتكاسلها عن ملاحقة المتسولين اللزجين، أو قل تعاطفها معهم.
اتفهم الآن مخاوف محمد عيد وزميله من تسليمهما للشرطة ليس لأنهما مجرمان وإنما لأن الشرطة حتما ستصادر بضاعتهما وهى رأسمالهما الذى يتكسبان من ورائه، وقد تحتجزهما لسويعات أو أيام تعطلهما عن السعى والاسترزاق. لم يكن لديه ترف الحبس أو رفاهية المصادرة. نم واسترح يا ولدى فسعيك لم يذهب هباء فأنت كلك برأسك الذى فارق جسدك وبضاعتك وقادم أيامك التى لن تأتى تساوون مئة ألف جنيه هى قيمة التعويض الذى ستتسلمه أسرتك. ترى كم من الوقت كنت تحتاجه لتحصل على هذا المبلغ؟ إنه الموت حين يكون أحياناً أثمن من الحياة.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة