جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

من الذى قتل البائع المتجول؟

جمال فهمي

الخميس، 31 أكتوبر 2019 - 08:04 م

قبل أيام وقعت حادثة مروعة ومخزية فى أحد قطارات الصعيد، عندما أجبر رئيس القطار اثنين من المواطنين الشباب الغلابة على النزول بينما القطار يسير، بحجة أنهما لا يملكان ثمن التذكرة (!!) وقد مات أحدهما تحت عجلات حديدية هرست جسده المكدود كما أصيب الثانى بإصابات بالغة، حدث هذا خلف ستار ثقيل من صمت الركاب وعدم تدخل أحد لمنع هذه الجريمة الشنيعة.
البيان الذى أصدرته هيئة السكة الحديد بعد الحادث الرهيب أشار إلى أن الضحيتين لم يكونا راكبين عاديين وإنما مجرد «بائعين متجولين»، وكأن كونهما كذلك يبرر رفع غطاء الرحمة عنهما ومعاملتهما بكل هذه القسوة والجلافة التى تبلغ مستوى الوحشية!!
أظن أنها جريمة تحمل كل سمات العار وتشى بشيء مقرف وكئيب أصاب إنسانية مجتمعنا ولوثها بالقسوة والاستهانة بخلق الله الذين لا يملكون شيئا من حطام الدنيا، هذه الحادثة الفظيعة ذكرتنى بمسرحية رائعة للكاتب الأمريكى الشهير آرثر ميلر (1915 - 2005).. عنوانها «موت بائع متجول»، وقد تبدو أحداثها ووقائعها للوهلة الأولى، بعيدة تماما عن المأساة التى جرت عندنا منذ أيام قليلة، غير أنها فى العمق تحمل المعنى نفسه الراقد فى ثنايا مأساتنا، ألا وهو العطب الأخلاقى الخطير الذى أصاب مجتمعنا وتسبب فيما جرى للشابين البائسين، فمسرحية ميلر تعرى تكشف زيف أبرز القيم السائدة فى المجتمع الأمريكى وخلاصتها أن الدعاية و»حسن المظهر» هى أقرب طريق للنجاح وتحقيق الثروة التى بدورها سبيل بلوغ النعيم والخلاص من البؤس، لكن هذه العقيدة تتسبب بشكل مباشر فى موت «بطل» المسرحية الذى اختار له ميلر اسم «ويلى لومان»، والكلمة الأخيرة low man تعنى فى الإنجليزية «الشخص الوضيع» طبقيا.
و«لومان» هذا رجل غلبان، إذ هو مجرد بائع متجول فى منتصف العمر لكنه يحلم الحلم الأمريكى العتيد أن تأتيه الثروة ذات مرة مادام يحرص وهو يبيع بضاعته على حسن مظهره، ونراه فى أول مشاهد المسرحية وقد عاد منهكا كسيرا ومهزوما من جولة بيع كان يريدها أن تكون الأخيرة وتجلب له الثروة التى ظل ينتظرها طوال عمره، لكن أمله يخيب، ويتذكر وهو فى قمة القنوط واليأس كيف ربى ولديه «هابى» و»بيف» على العقيدة ذاتها التى بدا له زيفها وفشلها الآن فقط، وسنكتشف بينما شريط ذكرياته يمر أمامنا، كيف أن الابن «هابى» قد صار شابا خائبا وغير مبال ولا يستطيع عمل أى شيء، أما «بيف» فإنه ليس أفضل حالا من أخيه، إنه أيضا لا يستطيع العمل فى أية مهنة ولا يملك أية حرفة.. باختصار أسرة لومان كلها تعيش حالة ضياع حقيقى، فالديون وتراكم الفواتير المستحقة عليهم، تحاصرهم، ويضاف على كل ذلك أن «هابى» فَقد منذ زمن احترامه لأبيه وتضعضعت ثقته فيه تماما، لهذا كله نقرأ أو نشاهد فى واحد من أواخر مشاهد المسرحية رب الأسرة «لومان» وقد أقدم على الانتحار على سبيل الاعتذار عما فعل بأسرته، فقد تصور أن موته قد يوفر لآله السبيل للخروج من أزمتهم المالية المستحكمة بعد أن يحصلوا على مبلغ وثيقة التأمين على حياته.
تلك هى، باختصار شديد ومخل، حكاية البائع الأمريكى المتجول التى كتبها آرثر ميلر فى العام 1949، وعرض فيها حال «الديستوبيا» أى فساد المجتمع التى أصيب بها مجتمع الولايات المتحدة آنذاك، وكيف قتل هذا الفساد بطل المسرحية، تماما كما قتل فسادنا البائع المتجول البائس وجرح زميله فى حادثة القطار.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة