د. محمد السعدنى
د. محمد السعدنى


فى الفكر والسياسة

معظم الناس هم أناس آخرون

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 14 نوفمبر 2019 - 07:21 م

قلت لك ذات مرة، إنه إذا التقى رجلان فى غرفة واحدة، سيكون الموجودون فى الواقع ستة أشخاص، هى ليست مغالطة حسابية أو نوعاً من الأحاجى والفوازير، إنها الحقيقة التى يغفل عنها البعض منا. نعم هم ستة أشخاص، ذلك أن هناك كل رجل كما يرى نفسه، وكل رجل كما يراه الآخر، وكل رجل كما هو حقيقته بالفعل.
وإذا لم تكن الفكرة قد وصلتك فدعنا نبدأ من جديد، فأنت لست ذلك الرجل الذى تحسب أنك هو ولا أنت ذلك الرجل كما يراه الآخرون، وهما بالضرورة مختلفان عما أنت عليه بالفعل. أنت إذن ثلاثة، هكذا دفعة واحدة، أنت كما ترى نفسك وأنت كما يراك الناس وأنت كما أنت بالفعل. هكذا الأمر بالنسبة لك وبالنسبة لنا جميعاً، إلا من رحم ربى من الصديقين وأولى العزم والمشائين بخير إلى يوم الدين. وحتى الأنبياء لم يسلموا من أثر هذه المقولة، فقد رآهم الناس على غير ما هم عليه وعلى غير ما أرادهم الله، ولذا فلكل منهم قصة وحكاية ومعاناة وفتح وهداية. ولماذا نذهب بعيداً، دعنا نذكرك كم مرة ساقتك الظروف إلى معرفة شخص تكونت له صورة فى مخيلتك وإذا بمرور الوقت واعتياد التعامل معه تتغير هذه الصورة رويداً رويدا حتى تقترب من حقيقته، بينما يظل هو مصراً على أن يرى نفسه فى صورة أخرى وشخص آخر. ذلك أن ملابسات الحياة وظروفها وتعقيدات الدنيا والمواقف والخيارات تكشف عن معادن الناس، وترفع القناع عن كثير من الوجوه والشخصيات، وحتى عن أنفسنا، فأنت إذا ما صادفتك المشاكل والنوازل تكتشف فى ذاتك شخصاً آخر، ربما أقوى وأصلب وأنبل، وربما أضعف وأقل وأصغر، وعندها تواجه نفسك فى مرآة الحياة وتعرف حقيقتك، وعندها عليك ألا تكابر أو تراوغ، وعليك أيضاً أن ترى نفسك كما أنت عليه لا كما تريد وتشتهى. هكذا هم أولو العزم يكابدون الدنيا ولا يراوغون أنفسهم أو يخاتلون الناس، بينما نحن جميعاً نظل فى حيرة محكومين بما نريده لأنفسنا لا بما نحن عليه بالفعل. إنها الصورة الذهنية التى كوناها وعشناها وتوحدنا فيها حتى تلبستنا كقناع لا نرى شخوصنا إلا من ورائه، قناع نخادع به أنفسنا بينما تنفذ نظرات الناس من خلاله فترى ذلك الوجه الذى ربما لا نعرفه، ولعله هو الوجه الذى لا يعرف الناس حقيقته أيضاً.
إذن عليك أن تكون نفسك، لأنك بمجرد أن تولد لا يمكنك الاختباء، فكن صادقاً واضحاً مع نفسك والآخرين. لا تقل إلا ما تفعل، ولا تفعل إلا ما تؤمن به، وأعلم أنك إذا قايضت ضميرك أو قناعاتك أو عقلك ومواقفك بمال الدنيا، فأنت رخيص. فإذا خفت فاصمت ولا تقل، وإذا قلت فلا تخف.
«كن رجلاً ولا تتبع خطواتى»، وسواء قالها فولتير أو جوتة أو نيتشة فاعمل بها عن قناعة، استفد من تجاربى وتجارب غيرى وأفكارنا وافعل ما يميزك أنت وما ينفعك وما يرضيك وما يناسبك، ليكن لك منهجك فى الحياة والفكر والعمل ولتكن لك رؤيتك، فيكن لك إبداعك وتميزك واستقلالك. لا تشغلن نفسك بصغائر الأمور فتغيب عنك كبارها، وليكن همك عملك وحلمك واجبك، ومكانتك موقعك الذى تعطيه جهدك وفكرك واهتمامك وإخلاصك. حقق مشيئة الله فى وجودك فأنت مستخلف فى الأرض حتى تعمرها، فكن من أولئك الذين يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا، فلا تغيب دورك ولا يغيب عنك، ازرع واحصد وانتج واقرأ وافهم وتعلم وانظر وفكر واعرف والزم واسجد واقترب.
هكذا كان حديثى فى محاضرة عامة، فى معرض نقد ظاهرة منصات التواصل الاجتماعى، حيث معظم الناس يتحدثون بغير علم ويفتون بغير معرفة، وينقلون عن غير مختص، يتظاهرون بالفضيلة، ويصدق فيهم قول الكاتب المسرحى والروائى الأيرلندى أوسكار وايلد فى روايته - صورة دوريان جراى - «إن معظم الناس هم إناس آخرون، آراؤهم آراء أشخاص آخرين، حياتهم تقليد وشخصياتهم اقتباس». أيها السادة: احذروا هذه المنصات ولا توغلوا فيها إلا بحذر.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة