إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد


مصر الجديدة :

قفلة الكاتب

إبراهيم عبدالمجيد

السبت، 16 نوفمبر 2019 - 08:46 م

يعرف الكتاب معنى قفلة الكاتب. يعرف المبدعون أكثر لأن الكتابة عندهم لا تكون بأوامر ولا تعليمات ولا طلب ولا اتفاق. أعنى الكتابة الإبداعية من شعر وقصة ورواية ومسرح وغيرها من الفنون. فالمبدع حين يبدأ تجربته لا يكون ذلك بموعد محدد سلفا ولا تنتهى فى موعد محدد سلفا أيضا. قد يترك العمل ويكف عن الابداع فجأة ولا يعرف السبب حتى بعد أن يعود إليه. لذلك أى حديث نقدى عن شروط الكتابة وكيف تبدأ ومتى تنتهى أمر عام. حديث فى المطلق لكن التجربة تختلف. لقد وصل عدم فهم الإبداع إلى درجة أن صار الكاتب مسئولا عن سلوك شخصياته وأشكالها. لا أحد يدرك أن الصدق الفنى يجعل المبدع ينصاع إلى لغة الشخصية فتكون «العالمة» فى حديثها غير العالِم. والحشاش غير الواعى والمرأة غير الرجل والطفل غير البالغ وهكذا. لقد انحط الفكر إلى درجة أن الكاتب صار يتحمل مسئولية ما تقوله أو تفعله شخوصه وتتم محاسبته على ما تقول الشخصيات الشريرة ولا تتم مكافأته على الشخصيات الخيرة. لكن هذا حديث سيأخذنى بعيدا عن قفلة الكاتب وما أعنيه بها. هى باختصار توقف المبدع عن الكتابة واغترابه عنها. الصحفى أو الباحث قد يتوقف لكن هناك ما قد يثيره فجأة أو يُطلب منه ويراه مهما فيمشى وراءه لكن المبدع إذا توقف لن يعود إلا إذا تغيرت حالته الروحية غير واضحة السبب. أجل. أسباب كثيرة قد تؤدى إلى قفلة الكاتب منها شعوره بلا جدوى ما يكتب. أو شعوره بقبح العالم حوله وعبث ما يراه فى الحياة. أو يحدث ذلك تلقائيا ودون سبب واضح وهذا هو الأكثر شيوعا. المبدع لا ينتظر مكافأة عن عمله فمكافأته الكبرى هى متعته فى العمل نفسه وهى متعة تشمل كل جوانب العمل لغة وتصويرا وحوارا وبناء. لكنه رغم ذلك قد يتوقف فجأة. بل غالبا يحدث هذا كثيرا فى حياته. العودة إلى الكتابة التى هى وطن الكاتب الحقيقى تكون غالبا بالسفر إلى مكان خالٍ أو انغماس فى السهر مع أصدقاء مولعين بالضحك لا النميمة أو التردد على السينما كثيرا والمسرح ومعارض الفنون التشكيلية. لا الميديا الموجودة الآن من فضلك لأنها تزيد من جرعة الآلام فى المنفى الذى هو الحياة ومهما وجدت أشخاصا خفيفى الظل فالأغلب هو الأخبار السيئة. هى السياسة بما فيها من احباط. يوما أجرت معى صحفية أمريكية حوارا لإحدى الصحف الأجنبية. سألتنى عن قفلة الكاتب وكيف تتغلب عليها. أشارت إلى فيلم بديع هو شكسبير عاشقا بطولة جوينيث بالترو وجوزيف فينِّيس وقالت لى لقد خرج شكسبير من قفلة الكاتب بممارسة الجنس مع عشيقته فهل تفعل ذلك ؟ ضحكت وقلت لها نحن نخرج من قفلة الكاتب بزجاجة بيبسى ! طبعا ضحكت لحظات طويلة وتصورت أنى أسخر من السؤال. قلت لها أشياء كثيرة قد تعيد الكاتب إلى إبداعه منها السينما وسائر الفنون التى لا يمارسها. لقد عشت سنوات رأيت فيها احداثا سياسية كبيرة وحضرت هزائم مثل ما سمى بالنكسة وقبلها حرب اليمن وقبلها حرب السويس أيام الطفولة. لكن لم تكن هناك ميديا تعرف منها كل صباح بالموتى والمقبوض عليهم والمشروعات الخاسرة وقطع الأشجار من الطرقات التراثية وحصار الشواطئ وردم الترع وانتشار أحداث الخطف والسرقة وانتشار التكاتك بلا أى محاولة للسيطرة عليها وما يتبعها من جرائم وغير ذلك. زمان كانت هناك ثلاث صحف هى الأخبار والأهرام والجمهورية وصحيفة المساء فقط لا غير. والمدهش أن الدنيا كانت أوسع. لم تعد قفلة الكاتب بنت التشبع أو عدم الرغبة فى الكتابة الآن لكنها صارت بنت النظر حولك أيضا. كل ما يمكن أن تفكر فيه من خيال سبقتك إليه الأحداث. المنفى يتسع كل يوم وكثيرا ما تكون «القفلة» نجاة للأسف.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة