أحمد عباس
أحمد عباس


تساؤلات

نكهات من مدينة «الأرملة البيضاء»

أحمد عباس

الخميس، 21 نوفمبر 2019 - 06:59 م

ولما كانت رائحة احتراق عُشب ما تهب من كل اتجاه، تخترق الأنف، وخيوط الدخان تفقد القدرة على التمزق أو الضياع - أليفة رائحته إلى القلب - تتعلق ببخار ماء بارد، حال دون تصاعدها، تتشابك فيه أعمدة بيضاء تختلط مع النسيم الآتى من بحيرات ممتدة، تُلف المدينة، تتشبث من فرط برودة انخفضت درجتها عن 6 درجات مئوية، ولما تشبعت الرطوبة بانت كأن للهواء نفسه نكهة، مُغرية هذه الرائحة لأنوف مدخنة، تعرف قيمة «المزاج»، وتقدر كثافة الدخان، وسُمكه، وتأثيره.
أدركت أننى الآن قد وصلت إلى أحد أرصفة المدينة الساحرة، أمستردام العاصمة، هولندا البيضاء، ربما ضائع على أحد خطوط الترام الذى يشق شوارع المدينة القديمة، أفقد القدرة على التمييز، أى الطرق أسلك، أو خلف أى رائحة أسير، أو أى وجهة أتبع، كل المناطق هنا عامرة بتجارب لم تزرها من قبل، حتى إن كنت رحالة كثير السفر، والتنقل، كذلك تبدو المدينة، فكلما تخيلت أنك وصلت إلى وجهة ما، تكون قد انخرطت فى ضياع جديد.
إذن خلف هذه النكهة أنا سائر، أتتبع منشأها، أو هكذا أتصور.. لكن المفاجأة أن لا مصدر واضح لها، فالجميع هُنا يدخنون الماريجوانا، يسيرون فى الشوارع الحجرية الضيقة مُشعلين لفائفهم. تمام.. إذن من أين يأتون بهذه اللفائف!.. المحال على كل النواصي، والحارات، والميادين تبيع بذور الماريجوانا، وصوبات مخصصة لزراعتها، حتى البسكويت، والشوكولا، بنكهات الماريجوانا، مصاصات هُنا تُباع للكبار بطعم الماريجوانا، حتى أن العُشبة التى ترمز للعاصمة هى إحدى وريقات الماريجوانا، لم يُعد باقيًا لأهل هذه المدينة، أو زائريها سوى تقديس عشبة الماريجوانا، بالمناسبة أغلى لفائفها تُباع فى آنية بلاستيكية مصنوعة خصيصًا لها، مقابل 9 يوروهات للسيجارة الواحدة، يدعونها بـ»الأرملة البيضاء».
أما عن نساء المدينة يا عزيزتى فلهن هُن الأخريات نكهة جمال ريفى بكر، تكاد تُشتم من خلف زجاج «فترينات» يقفن خلفها، شبه عاريات، تبعن أى شيء.. أو إن شئتِ، تبعن كل شيء، لكن وللحق، فأنا لا يروقنى وصفهن ببائعات الهوى، ولا راغبات المتعة، ولا هذه الكليشيهات المنمقة المهذبة، التى اعتدناها، هُن فقط يمارسن أعمالهن، ولا يجسر أحد على التقليل من هذا العمل، أو ازدرائه، وإهانته، أو حتى تصويره، فلا يصفه أحد هُنا إلا بـ»الضرورة الإنسانية».. ولا خجل فيما أقول، أنا فقط أصف ما رأيت!
وفى ميدان «دام سكوير» الفسيح، لم تتوقف الأمطار لحظة، لم تبلغ حد السيول، ولم تكتف بقطرات ندى، كانت أمطار معتدلة تنصب على المدينة كلها، بنفس المعدل، فلا هى زادت لحظة فأغرقت الجميع، ولا قلت ثانية فجفت شقوق حجر الشارع، والعجيب يا عزيزتى أن لا فجوة واحدة امتلأت، ولا جحر واحد فاض بالمياه، ولا شارع علت فيه المياه عن ملليمتر يعيق السير والحركة، كذلك بُنيت الدول، وهكذا أسست شوارعها، ومجاريها.
ولكن قبل الرحيل يا صديقتي، نكهة أخرى تلوح من هناك، قبل بلوغ الميدان ذاته، طعم يفرض نفسه، له دسامته، وأناقته، مصنوع من لبن غني، ومحلوب من أبقار سمينة، ترعى فى خضار لا ينقطع، نعم.. الجُبن، فكيف تأتى المدينة دون زيارة محال «أولد أمستردام» أعتقدهم أول من اخترع الجبن المطبوخ، وسوقه للعالم، بل واخترعوا له صلصات مختلف ألوانها وأطعمتها، تفاح، أو تين، أو صلصة الخردل الرائقة..
ولأن الزيارة كانت ليوم واحد، ولأن للمدينة نكهات كثيرة، ولأن عدد كلمات هذه المساحة لم تُعد تكفى حكايات مدفونة، مضطر أنا للتوقف هنا، لكن رائحة «الأرملة البيضاء» لاتزال تطاردنى.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة