سعيد الخولى
سعيد الخولى


يوميات الأخبار

طه حسين على عرفات.. والشعراوى يستقبله بقصيدة

سعيد الخولي

الخميس، 28 نوفمبر 2019 - 07:12 م

فلما توقفوا عندها ترجّل العميد وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمّها ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب قائلًا: «والله إنى لأشم رائحة النبى محمد  فى هذا التراب الطاهر».

«ما أكثر ما ألقى علىَّ هذا السؤال، وكان جوابى دائمًا واحدًا، وهو أن أول ما شعرتُ به، ومازلتُ أشعر به إلى الآن، "هو هذا الذى يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جدًا إلى موطن عقله وقلبه وروحه بمعنى عام».
هكذا كان جواب الدكتور طه حسين وهو يُسأل عن شعوره وهو يطأ أرض الحرمين الشريفين فى رحلة حجه الوحيدة عام 1955 وهو فى السادسة والستين من عمره، وهى الرحلة التى لم يسجلها العميد بنفسه، ولا يعرف عنها الكثيرون تفاصيل دقيقة، وكان فيها رد على ما أثير حول عقيدته واتهام البعض له ما بين التفسيق إلى التكفير.
وحين عاد إلى القاهرة قال: لقد سبق أن عشت بفكرى وقلبى فى هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عامًا منذ بدأت أكتب "على هامش السيرة" حتى الآن ولما زرت مكة والمدينة أحسست أنى أعيش بفكرى وقلبى وجسدى جميعًا، عشت بعقلى الباطن، وعقلى الواعى استعدت كل ذكرياتى القديمة، ومنها ما هو من صميم التاريخ، ومنها ما هو من صميم العقيدة.
وأضاف العميد: وكانت الذكريات تختلط بواقعى، فتبدو حقائق حينًا ورموزًا حينًا، وكان الشعور بها يغمرنى ويملأ جوانب نفسى"، ولما سئل هل أخرجك هذا الشعور عن المألوف؟.. ابتسم فى هدوء وأجاب: «على أى حال لم أصل إلى درجة الانجذاب، كنت دائمًا فى كامل وعيى، أخذتنى الرهبة والخشية والخشوع كل مأخذ عندما كنت وحدى».
كانت رحلة عميد الأدب العربى طه حسين إلى الأراضى المُقدسة مع صديقه أمين الخولى لأداء فريضة الحج قد استغرقت تسعة عشر يومًا، وعندما دخل العميد إلى الأراضى المقدسة كان كما ذكرت فى السادسة والستين من العمر، وكان يعتبر فى ذلك الوقت قد كبر ونضح أكثر وقد نال ما كان يحلم.
وعندما سئل عن إحساسه حين تجرد فى ملابس الإحرام؟ وبماذا دعا الله فى المسجد الحرام؟ أجاب: «أؤْثر أن يترك الجواب على هذين السؤالين لِما بين الله وبينى من حساب، وإنه لعسير، أرجو أن يجعل الله من عسره يسرًا».
وفى تلك الرحلة قام د. طه حسين بالتنبيه على مرافقه وهما يغادران مدينة جدة قاصدين البيت الحرام فى مكة المكرمة أن يوقف الركب عند الحديبية، فلما توقفوا عندها ترجّل العميد وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمّها ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب قائلًا: «والله إنى لأشم رائحة النبى محمد  فى هذا التراب الطاهر»، وهدأ مرافقه من روعه على مدى نصف الساعة، ثم استمر الركب حتى دخل الحرم من باب السلام.
وعند الطواف، كان العميد يناجى ربّه بقوله: «اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهى، لا إله إلا أنت».
وتذكر زوجته الفرنسية سوزان فى كتابها «معك» الذى ترجم للعربية وسجلت فيه تفاصيل الرحلة أن طه حسين ناجى ربه بنفس الصيغة فى مؤتمر بفلورنسا عام 1951 عن الحضارة المسيحية والإسلامية ودعى طه للمشاركة فيه، فردد الدعاء بالفرنسية فى محاضرته لتدوى القاعة بالتصفيق لدقائق وتجىء إليه سيدة فرنسية وتطلب منه نص الدعاء فأعطاه لها، ثم قالت وهى تبكى: خذ دموعى وإعجابى وبلغهما للإسلام الذى أحبه كثيرا.
وكان الشيخ محمد متولى الشعراوى بين من استقبلوا الدكتور طه حسين فى رحلة حجه واحتفوا به وكان عضوا ببعثة الأزهر وألقى قصيدة قال فيها:
هو طه فى خير كل قديم
وجديد على نبوغ سواء
ياعميد البيان انت زعيم
بالأمانات أريحى الأداء
لك فى العلم مبدأ طحسنى
سار فى العالمين مسرى ذكاء
وعندما عاد للقاهرة سأله الشاعر المعروف كامل الشناوى عن مناجاته لله خلال تلك الرحلة أجاب بغضب وانفعال: «ما بالكم تقحمون أنفسكم بين العبد وربه؟».
فعلا ما بال بعضنا يقحم نفسه فيما بين العبد وربه فيزكى واحدا ويبشره بأنه من أهل الجنة والنعيم المقيم ويسخط على آخر ويحكم عليه بالجحيم والعذاب الأليم؟
الغلاء والوباء
الجمعة:
أما الوباء الذى أصاب عصرنا فهو وباء الأخلاق الذى ضربها ومازال فى مقتل يوما بعد يوم، السينما كانت نورا ونارا حملت فى طياتها بعض التنوير وكثيرا من الوباء الذى هتك كثيرا الغلالة الشفافة أو الخيط الرفيع بين الصراحة والوقاحة وبين الجمال المعنوى المحسوس والعرى الكاشف الملموس، وتاهت فى أغلب أحوالها رسالة وقيمة تحملها وسط بهارات الصنعة المتكلف فيها ومغازلة شباك التذاكر وغرائز الشباب والفتيات، وتفرق صانعوها بين مبدأ الفن للفن أم الفن للناس والمجتمع، واسترسل أصحاب الفن للفن فى تفريغ كبت نفوسهم ليملأوا منه فراغ نفوس الصغار، وما بين حرية مطلقة فى الغرب وحرية ثلاثية القيود فى الشرق بين السياسة والجنس والدين وتسلط الحكام كان طبيعيا أن يسود وباء الأخلاق تحت دعوى حرية الإبداع ويسيطر على متلقيها من المحرومين من حرية الرأى والإبداع ليصفقوا دائما لكل الوارد من الغرب رغم أن كثيرا منه لا يسر القلب، وسادت موجات البلطجة والمخدرات والجنس فيما يرد إلينا من فن موجه لنا ومصنوع على مقاسنا، وضج الشاكون واشتكى الضاجون ولكن هيهات فالفأس كثيرا ما كانت تقع فى الرأس.
 ونفس الأمر جرى مع فرض نمط من الملابس بدعوى الموضة، ولعل كثيرين منا يتذكرون كيف هجمت موضة البنطلونات المقطعة بشراسة بدءا من الأعمال الفنية ثم البرامج المستضيفة لنوعيات منفلتة من مدعى ومدعيات الفن وهم يتباهون أمام المشاهدين بتلك الموضة المزرية، وزادت مواقع التواصل الاجتماعى المعركة اشتعالا بعرض ما يصعب عرضه على الشاشات من موديلات صارخة تتناثر ثقوبها الواسعة فوق الأفخاذ وفى الخلفيات حتى بات الناس مرتعبين من أن يصبحوا فيجدوا أولادهم وبناتهم جميعا على تلك الدرجة من الوقاحة وازدراء الاحترام والاحتشام.. وبعدها تهدأ الأمور قليلا لتقل الرقع والثقوب وتبتعد قليلا عن مواضع الإثارة ويتقبلها بعض الناس بعد مقارنتها بما أرعبهم، وتتحول البنطلونات ذات الثقوب الهادئة إلى صرعة مبلوعة، وتبدأ مصانع الملابس فى إنتاج أزياء للصغار تنتهج نفس النهج ويبحث رافضو تلك الصرعات القبيحة فلا يجدون لصغارهم إلا مثل تلك الموضات، ولا يكون أمامهم إلا محاولة تفصيل ملابس لائقة والصغار يطالبون بما يشابه ملابس زملائهم، ويبقى قليل من منتجى الملابس المحليين يراعون أذواقنا وعاداتنا لأن أذواقهم ترفض أن تفرض هذه الموضات على الجميع بفعل بقية من ضمير وقيم ومسحة من الدين...
اللهم ارفع عنا الغلاء والبلاء والوباء.
فكرونى
السبت:
ما أجمل القاهره يوم الإجازة.. الأتوبيس يذكرنى بفيلم أبيض وأسود. الركاب لا يتعدى عددهم عشرة كلهم ينتمون بشعورهم لعالم الأبيض فى أبيض إلا واحدا مازال يخوض صراع الأبيض والأسود. السائق أربعينى السن ينبئ الشكل بانتصار الأبيض لديه بفعل الضغوط والمعاناة وتجبر الحياة. صعد الكمسارى الذى يبدو فى أواخر خمسينياته ينتظر عدة أشهر يتخلص بعدها من عهدة التذاكر وتتخلص منه الهيئة بالتقاعد.. طلب من سائقه التحرك. امتعض الأخير لأنه لم ينته من سجاله الفيسبوكى. طلب ناظر المحطة منه التحرك فطلب السائق بدوره من الكمسارى أن يجلس بدلا منه ليقود الأتوبيس حتى يخرج من حواره مع المجموعة. نهره الكمسارى ودخل فى حوار مع الناظر حتى بدأ السائق فى التحرك. لكنه ما لبث أن توقف فى عرض الشارع وطلب من الكمسارى أن يبتاع له علبة سجائر فما كان من الأخير إلا الرفض والامتعاض من السائق المدخن وكأنهما لا يعرفان بعضهما.
وعاد صاحبنا بعلبة سجائر اشتراها وفتحها والتقم واحدة منها سريعا وأشعلها وهو يدير موتور الأتوبيس ومعه فلاشة يضعها على محموله بدأت تعلن عن إحدى أغنيات أم كلثوم "جددت حبك ليه" بمقدمتها الهادئة، وتلاقت رءوس الركاب ذات الشعر الأبيض حول ميراثهم القديم لم يشذ سوى واحد أشاح بوجهه خارج الشباك. وبدا السائق الأربعينى المدخن ستينى الهوى كلثومى المزاج ينطلق بسيارته وركابه رويدا رويدا؛ وقد تباينت ردود أفعال الركاب ما بين متخذ ركبتيه معزفا لأصابعه مع نغمات المقدمة الموسيقية أو مسند رأسه إلى الشباك وذاهب بعينيه إلى زمن مضى ولم يبق منه إلا الأنغام، وبعض آثر ألا تغلب صبوته شيبته فالتزم السكون وادعى الوقار. وما كادت المقدمة تنتهى وتعتدل الست لتبدأ الغناء إلا وقد توقف الأتوبيس فجأة إثر فرملة عنيفة، وتوقفت معه الأغنية فظهرت ردود أفعال الركاب وهم يقولون: إيه يا أسطى بطلتها ليه؟. وتعجب صاحبنا من ردود أفعالهم تلك. ودارت السيارة مرة أخرى وأعاد السائق تشغيل أغنيات الست لكنه هذه المرة فتح أغنية مختلفة «فكرونى» وكأن كل من بالسيارة يحفظ المدخل الوهابى الموسيقى للأغنية ولم تمض لحظات حتى كان الاندماج يستولى على الجميع ومع كل محطة يركب جدد وينزل البعض والست تشدو صباحا فتحيل النهار ليلا مثل لياليها زمان.. غريبة هذه المرأة بما كانت تقدم من فن لا يحتاج مناسبة لسماعه ولا وقتا محددا، يسمعها الحزين وهى تشدو للفرح والأمل فيذهب حزنه وينسى شجونه ويتفاعل معها، ويسمعها المنتشى وهى تكاد تبكى فلا يغضب من شدوها الحزين فيعيش سعادته ويسعد بحزنها وألم كلماتها وأنين ألحانها. قالها صاحبنا لنفسه وهو يقف بجوار السائق مستعدا للنزول وبجواره من يقول له: الله ينور عليك ويرحم أيامها ويرحمنا من أيامهم.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة