آمال عثمان تكتب: ثلاثة عقود من الأحلام والفن الجميل
آمال عثمان تكتب: ثلاثة عقود من الأحلام والفن الجميل


مهرجان القاهرة السينمائي يستعيد شبابه بعد الأربعين..

آمال عثمان تكتب: ثلاثة عقود من الأحلام والفن الجميل

آمال عثمان

الجمعة، 29 نوفمبر 2019 - 11:31 م

عاصرتُ مهرجان القاهرة السينمائى على مدى ثلاثة عقود.. حملتُ معها ذكريات وأحداثا وأفلاما وشخصيات.. وشهدتُ سنوات من الصعود والنجاحات.. وأخرى من الهبوط والإخفاقات.. طرقت تلك الذكريات جدران عقلى بقوة، واستأذنت فى الخروج إلى الحياة مرة أخرى مرتدية ثوب الحنين.. بينما كنتُ أجلس فى دار الأوبرا انتظر العرض العالمى لفيلم الافتتاح «الأيرلندي» أحدث أعمال المخرج القدير «مارتن سكورسيزى».. هذا الحدث السينمائى الكبير الذى طال انتظاره، والمرشح الأقوى لحصد جوائز الأوسكار.. تداعت أمامى الصور والمشاهد جلية.. كما لو كانت بالأمس القريب.. وتجسدت أمامى أولى سنوات عمرى مع المهرجان، الذى كان آنذاك فى أزهى سنواته وبريقه، وشعرتُ بالسعادة نفسها التى غمرتنى حينما كنت أشاهد -لأول مرة- فيلم الافتتاح «Intevista» للمخرج العبقرى «فريدريكو فيللينى».. بدار سينما «مترو» المحاطة بأعداد غفيرة من الجماهير المصطفة على الجانبين لرؤية نجوم وصناع الفن السابع، والاحتفاء بالحدث الأهم والأكبر لعشاق السينما.

حلم العودة إلى سنوات البريق والتألق والازدهار بدأ يصاحب خطواتي فوق السجادة الحمراء، وفى طريقى لحضور حفل افتتاح المهرجان الذى يحتفى ببلوغه العام الأول بعد الأربعين، تراءى لى كل شيء فى كامل الأناقة والبساطة والجمال، وبدون صخب وبهرجة أو افتعال وضجيج، توالت فقرات الحفل الذى خرج عن المألوف، وتجاوز التقاليد العتيقة والخطب العصماء الطويلة، وعكس فكرا خلاقا وروحا شابة جريئة، تؤمن بالحداثة والتكنولوجيا، وتدفع بالفن السينمائى الجديد، لكنها لا تغفل التاريخ العريق لهوليوود الشرق مهد السينما العربية، روح نبيلة تحتفظ بالمعنى والقيمة وتتمسك بمشاعر الوفاء والعرفان، لكنها لا تتجاهل المتعة والبسمة والبهجة، وعقل يدرك ثمن وقيمة النجومية، لكنه ينتصر للشاشة البيضاء ويراهن على صنّاع الإبداع السينمائى الحقيقي، ويأبى إنفاق ملايين الدولارات لاستضافة نجوم من العالم، لكى يخطون فوق السجادة الحمراء، ويوزعون الابتسامات ويلتقطون الصور التذكارية!!

وهكذا خلقت أيام وليالي المهرجان حالة من الحراك الثقافي والفني، وملتقى يجمع عشاق السينما من مختلف الجنسيات، وحلقات من التواصل والتلاقي بين صناع الفن السابع، وكذلك طوابير ممتدة من الشباب أمام شباك التذاكر وقاعات العرض، وهكذا كان المهرجان أيضا مزيجا جميلا من فن السينما الساحر الذى يضىء زوايا الروح، ويعيد تشكيل أفكارنا ويوسع آفاق مداركنا، ويعمق نظرتنا للعالم حولنا، ويبدّل رؤيتنا للبشر والحياة والوجود، وهكذا كانت أيامه ولياليه وشائج من الأفلام والمسابقات والبرامج السينمائية، والندوات والمحاضرات التثقيفية، والمنصات والورش الفنية والحلقات النقاشية والمعارض.

الأيرلندي ومباراة التمثيل

نجح الكاتب والمنتج المثقف محمد حفظى رئيس المهرجان فى الحصول على حق عرض فيلم «الأيرلندي» فى حفل افتتاح المهرجان، قبل أن ينطلق عرضه على منصة «نتفلكس» ببضعة أيام، ويعد الفيلم بمثابة ولادة متعسرة، حيث ظل حلماً مشتركا بين النجم روبرت دي نيرو والمخرج سكور سيزي طوال عشر سنوات، بعد أن رفضت استوديوهات السينما العملاقة فى هوليوود إنتاجه، وانسحبت شركة «بارامونت» بسبب الخلاف حول الميزانية، وأخيرا تصدت له منصة «نتفليكس»، ورصدت له ميزانية 105 ملايين دولار، لكنها ارتفعت لتصل إلى 159 مليون دولار، وجاء «الأيرلندي» مباراة فى فن الأداء التمثيلى بين الثلاثى الشهير «روبرت دى نيرو» و»آلباتشينو» و» جو بيتشي»، وخاض العظماء الثلاثة تجربة صعبة من خلال تقنية المؤثرات البصرية الحديثة «Digital de aging» التى تعمل على تصغير عمر الممثل على الشاشة، حيث ظهر أبطال الفيلم أقل من أعمارهم بنحو 25 عاما، ويعد الفيلم أطول الأفلام التى قدمها «سكورسيزي»، حيث يصل زمنه إلى ثلاث ساعات ونصف، إلا أن السيناريو البارع للكاتب الشهير «ستيفن زايليان»، الذى اعتمد على أسلوب «الفلاش باك» والتشويق، والانتقال ببراعة بين الفترات الزمنية المختلفة، والتصاعد الدرامى والمفاجآت والتحولات غير المتوقعة فى علاقة الشخصيات الرئيسية التى رسمت بمهارة، وكذلك التميز الشديد لعنصرى التصوير والمونتاج، كل هذه العناصر ساهمت معا فى ضبط إيقاع الفيلم، وجذب المشاهد من أول إلى آخر مشهد.

والفيلم يدور فى حقبــة الخمسينيات، ويقدم رحلة داخل أعماق قاتل شديد الإجرام، ويكشف فساد المجتمع الأمريكي، وتورط أجهزة المخابرات مع رجال المافيا فى العديد من الاغتيالات، وهو مأخوذ عن رواية تتناول أحداثا حقيقية، للكاتب «تشارلز برانت» تحمل اسم «سمعتُ أنكم تطلون المنازل»، وتدور أحداث الفيلم حــول سائق شاحنات «فرانك شيران» أو « الأيرلندي»، الذى يروى سيرة حياته لأحد القساوسة، بعد أن تقدم به العمر، وصار نزيلا فى إحدى دور المسنين، ويستعرض حياته منذ كان جنديا شابا بالجيش الأمريكى فى الحرب العالمية الثانية، يقوم بقتل الجنود الإيطاليين بدم بارد، ثم عمله سائقا لسيارات نقل اللحوم، وتحوّله بعد ذلك إلى قاتل مأجــور بلا قلب أو مشاعر، يعمل لصالح «راسل بافالينو» أحد رجال عصابات المافيا، وصولا لتقربه من «جيمى هوفا» والعمل معه حتى يصل لرئاسة نقابة عمال النقل فى أمريكا، وينتهى الأمر بتآمره مع «بافالينو» لقتل «هوفا» وإخفاء جثته، وقد شكّلت واقعة الاغتيال الحقيقية لنقيب عمال النقل عام 1975 لغزا كبيرا لرجال التحقيقات، وظل اسم القاتل ومكان جثة الضحية مجهولين!! 

ورغم أن الفيلم مرشح للعديد من جوائز الأوسكار إلا أن جمهور السينما يبقى محروما من مشاهدة تلك التحفة السينمائية على الشاشة الفضية، حيث رفضت شبكة نتفلكس عرضه فى دور العرض الكبيرة بالولايات المتحدة، واقتصر عرضه على دور عرض محدودة ببريطانيا، لذا يظل السؤال: ما أهمية تنفيذ فيلم برؤية فنية مميزة وميزانية ضخمة إذا لم تكن مشاهدته متاحة سينمائيا؟!

مسافات طويلة فى زمن قصير

وإذا كانت التقنيات التكنولوجية الحديثة التى ابتكرتها السينما العالمية لإعادة النجوم إلى الشباب، هى الاختراع المدهش الذى استخدمه المخرج «سكورسيزي» لصناعة فيلمه «الايرلندي»، فإن الفنان المبدع محمد حفظى نجح بدون هذه «الأداة السحرية» فى أن يستعيد شباب المهرجان، ويحطّم عزوف الجمهور عن أفلامه، واستطاع عاشق الفن السابع الذى يمتلك قدرات ومواهب عديدة أن يقطع مسافات طويلة فى زمن قصير، ويحقق قفزات كبيرة نحو العودة لسنوات الازدهار والتألق التى عاشها المهرجان قبل سنوات عديدة من عمره، ومع ذلك ظل يحتفظ طول الوقت بابتسامته وهدوئه وتواضعه. 

لقد أدرك الفنان محمد حفظى أن الهدف الأهم والأبقى الذى يسعى إليه المهرجان هو استعادته لبريقه وتأثيره، وتعميق التواصل بينه وبين الجمهور، واجتذاب الشباب لحضور الأنشطة والبرامج والأفلام، وأن يكون المهرجان بماضيه العريق حدثا سنويا، يتوق إليه صناع السينما ليس فى المنطقة العربية فحسب، وإنما فى كل دول العالم، ويتطلع الجميع فى «نوفمبر» من كل عام للقاهرة، باعتبارها مركز اشعاع ثقافى فني، عبر مهرجان معاصر ومؤثر وممتع ومفيد لجميع أطراف المعادلة السينمائية.

وتبقى التحية هنا لمخرج الحفل «هشام فتحي» الذى احتفى برائدات السينما المصرية المغامرات، اللاتى كان لهن الفضل فى إرساء دعائم هذه الصناعة العريقة، وذلك من خلال عرض الفيلم القصير « 6 ستات»، والذى تضمن لمحات سريعة عن تاريخ سيدات عظيمات تحدين تقاليد المجتمع، وتعرضن لصعاب وأزمات كبيرة فى حياتهن، ومع ذلك استطعن بشجاعتهن وصمودهن أن يحفرن لأنفسهن تاريخا خالدا، وهن عزيــزة أميــر، بهيجــة حافــظ، فاطمة رشــدى، أمينة محمد، وآسـيا داغـر التــى خسرت كل أموالهــا لإنتاج فيلم «صلاح الدين الأيوبي» أحد كلاسيكيات السينما المصرية، وأخيرا ابنة شقيقتها مارى كوينى التــى أسست مع زوجها أستوديو جلال، وعاشــت أيامــا صعبـة، وجاءت فكرة فيلم التكريم فى إطار الاتفاقية 50- 50 التى وقعها المهرجان لتتيح للمرأة فرصة المشاركة مناصفة جنبا إلى جنب مع الرجل.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة