لقطة نادرة لـ«الكتب خانة» قديما
لقطة نادرة لـ«الكتب خانة» قديما


ملف «دار الوثائق 1»| كنوز التوثيق وانطلاقة التأريخ

نادية البنا

الأحد، 01 ديسمبر 2019 - 11:43 م

اهتم المصري القديم بحفظ الوثائق والمستندات، وكان أول من خطَّ بالقلم، وأول من صنع الورق، وكانت الدولة المصرية منذ قديم الأزل تهتم بحفظ المكاتبات والسجلات وتنظيمها وترتيبها بغرض الحصول على البيانات والمعلومات.

 

وكان من المبادئ الهامة في حياة آل فرعون أن ما لم يقيد في وثيقة يعد غير موجود، واهتم المصريون القدماء بالتمييز بين الوثائق من حيث نوعها كالرسائل والخرائط وكشوف الحسابات، ومن حيث قيمتها ودرجة سريتها، ومن حيث خاماتها وكونها وثيقة أصلية أم منسوخة.

 

وتعتبر الوثائق والمخطوطات أهم المصادر التي يعتمد عليها في تدوين التاريخ، كما قال المؤرخ الفرنسي الشهير "ديكوما" في القرن الـ15 إنه "لا يوجد تاريخ بدون وثائق"، ما جعل شعوب العالم تهتم بجمعها وحفظها وإنشاء الدور والمراكز التي تؤمن استيعابها وصيانتها.

 

بدأت عملية حفظ الوثائق على الورق ثم الميكروفيلم، ومع ظهور تكنولوجيا الحاسبات بدأت تأخذ عمليات الحفظ صوراً متطورة باستخدام اسطوانات مختلفة التقنية والحجم تتسم بمساحات تخزينية هائلة، يُمكن الاطلاع عليها في أي وقت وبسهولة فائقة، ولكن مع ذلك تظل الوثائق الورقية تتميز بطابع الأصالة، فمُشاهدة الوثيقة على طبيعتها بخلاف المُشاهدة من خلال جهاز الكمبيوتر أو على صورة ضوئية منها.

 

تستعرض «بوابة أخبار اليوم» في التقرير التالي تاريخ نشأة دار الكتب والوثائق باعتباره معلمًا هامًا، وذلك ضمن ملف نعده للقارئ للتعرف على تاريخ الدار وأبرز محتوياتها والمخطوطات النادرة التي تكشف أهم المحطات في تاريخ مصر .

 

 

دار الكتب والوثائق


 
تعد الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية المصرية، أحد المعالم الثقافية والفكرية والحضارية المهمة التي لها تاريخ عريق ودور رائد وفعال في نشر الثقافة والتراث العلمي والأدبي والفني، وقد جاءت فكرة إنشاء «دار الكتب والوثائق» عند الحاجة إلى المحافظة على ثروة مصر الثقافية، والعلمية .

 

كما تعد دار الوثائق القومية المصرية واحدة من أهم وأقدم دور الأرشيف في العالم، وثاني أرشيف وطني على مستوى العالم من حيث النشأة بعد الأرشيف الفرنسي الذي أنشئ عام 1790م، وأنشأت دار المحفوظات العامة في لندن عام 1798م، وقد أنشئت دار الوثائق بالقاهرة عام 1828م .

 

ويرجع الفضل في تأسيس عمليات حفظ الوثائق في مصر لعهد محمد علي، حيث تم إنشاء ما يسمى بـ «الدفترخانة» لحفظ الوثائق في عهد محمد على باشا عام 1828، والتي أخذت فيما بعد أشكالا متطورة انتهت بعملية الحفظ الإلكتروني، مع إضافة عملية التوثيق الإلكتروني لها من أجل الحفاظ على هويتها الرسمية أو الشكل القانوني لها.

 


«الدفترخانة» المصرية

 

إنشاء "الدفترخانة المصرية" عام 1828 هو النواة الأولى لدار الكتب والوثائق القومية، وتعد أقدم مؤسسة ثقافية تعنى بحفظ ذاكرة مصر التاريخية عبر العصور، ولم يكن إنشاء «الدفترخانة» في البداية لأسباب بحثية أو علمية وإنما كمقر لحفظ الأوراق والملفات بهدف استكمال مشروع التنمية، وكانت الدار مكاناً لحفظ أوراق الدولة للرجوع إليها إداريا وقت الحاجة.

 

وكان للملك أحمد فؤاد دور كبير في الاهتمام بالوثائق باعتبارها المصدر الأساسي للكتابة التاريخية، وذلك حينما عنى بالكتابة عن تاريخ "محمد علي وأسرته"، حيث استقدم بعض المؤرخين والمفهرسين لجمع وثائق أسرة محمد علي من أماكن مُتعددة ونقلها إلى قصر عابدين، لكي تكون في متناول المؤرخين لكي يكتبوا عن محمد علي، ولم يكتف بذلك بل بعث بمُترجمين إلى الأرشيف البريطاني والفرنسي والنمساوي وحتى الأمريكي لكي يستنسخوا ما كتب عن مصر فيها، لتستقر في قصر عابدين في النهاية مئات الألوف من الوثائق المترجمة إلى العربية، وهي مادة وثائقية في غاية الأهمية، لا يزال الباحثون المصريون والعرب يعتمدون عليها في كتاباتهم عن تاريخ مصر خلال القرن الـ16.

 

وقد بدأت المدرسة التاريخية المصرية الحقيقية خلال تلك الفترة من عشرينيات القرن الـ20، وكان من روادها "شفيق غربال" و"صبري السريوني" وغيرهما، حيث ظهرت العناية بالكتابة التاريخية بالمعنى العلمي في مجالات مثل التعليم والصناعة والزراعة والتجارة اعتماداً على الوثائق التي أصبحت مُتاحة سواء في دار المحفوظات العمومية أو في دار المحفوظات التاريخية الملكية في قصر عابدين.

 

كتب خانة عمومية

 

وفي الفترة من (1863- 1879) كانت لدى الخديو إسماعيل رغبةٌ في إنشاء «كتب خانة عمومية»؛ لجمع شتات الكتب من المساجد وخزائن الأوقاف وغيرها؛ لحفظها وصيانتها من التلف؛ واقترح علي مبارك على الخديو إسماعيل إنشاء دار كتب على نمط المكتبة الوطنية في باريس؛ حيث أعجب بها حينما أُرسل ضمن البعثة التي أُوفدت لدراسة العلوم العسكرية سنة 1844. 

 

وبناء على ما عرضه على باشا مبارك أصدر الخديو إسماعيل الأمر العالي رقم 66 بتأسيس «الكتب خانة» في 23 مارس 1870م، في سراي مصطفى فاضل باشا (شقيق الخديو إسماعيل) بدرب الجماميز لتكون مقراً للكتب خانة. 

 

وجُعل لها ناظر وخدمة، وصار لها مفهرس من علماء الأزهر مسئول عن الكتب العربية، وآخر مسئول عن الكتب التركية، ونُظمت لها لائحة وضعت أسس الانتفاع بها. وكانت النواة الأولى لمقتنيات الكتب خانة الخديوية نحو ثلاثين ألف مجلد، شملت كتب ومخطوطات نفيسة، جُمعت من المساجد والأضرحة والتكايا ومكتبتي نظارتي الأشغال والمدارس. 

 


إسمها وتبعيتها

 

وقد اتخذت دار الكتب عدة مسميات رسمية فكان اسمها عند نشأتها سنة 1870 الكتب خانة الخديوية، ثم دار الكتب الخديوية 1892- 1914، ثم دار الكتب السلطانية 1914– 1922، ثم دار الكتب الملكية 1922- 1927، ثم دار الكتب المصرية 1927- 1966، ثم دار الكتب والوثائق القومية 1966- 1971، ثم الهيئة المصرية العامة للكتاب 1971- 1993، وأخيراً أطلق عليها الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية منذ 1993وحتى الآن .

 

بدأت الكتب خانة في أول عهدها في سنة 1870 تحت إشراف «ديوان المدارس»، الذي تغير اسمه في سنة 1875 إلى «نظارة المعارف العمومية»، ثم وزارة المعارف في سنة 1915، ثم وزارة التربية والتعليم سنة 1955، وفي سنة 1958 انتقلت تبعية دار الكتب المصرية من وزارة التربية والتعليم إلى وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ولا تزال تتبع وزارة الثقافة حتى الآن.

 


مراحل انتقال «الوثائق» من «الكتب خانة» إلى «الكورنيش»

 

في عام 1880 ضاقت «الكتب خانة» بمقتنياتها، ثم نقلت سنة 1889م إلى الطابق الأول «السلاملك»، من السراي نفسها، ومع تزايد رصيد الكتب خانة أصدر الخديو عباس حلمي الثاني في سنة 1896 أمراً بنزع ملكية الأرض وتخصيصها لبناء الكتبخانة الخديوية عليها، ولكن هذا المشروع لم يتحقق. 

 

وفى عام 1899 وضع الخديو عباس حلمي الثانى حجر الأساس لمبنى يجمع بين «الكتب خانة الخديوية» ودار الآثار العربية (متحف الفن الإسلامي حالياً) في ميدان باب الخلق (ميدان أحمد ماهر فيما بعد)، وخصص الطابق الأرضي من المبنى لدار الآثار العربية، وطابقه الأول بمدخل مستقل لدار الكتب الخديوية، وفي 5 مارس 1904 افتتحت «الكتب خانة» أبوابها للجمهور.

 

وفي عام 1930 ضاقت مخازن دار الكتب بمختلف أنواع المقتنيات، وبموظفيها وروادها من المطالعين، لذلك أخذت الدار منذ ذلك التاريخ تطالب بإنشاء مبنى جديد يساير التطور العالمي في نظم المكتبات الحديثة في ذلك الوقت، ففي سنة 1935 وقع الاختيار مبدئياً على أرض الحكومة بجهة درب الجماميز، واختير موقعا "بأول شارع تحت الربع"؛ لقربه من مكان الدار في ذلك الوقت الذي اشتهرت به. 

 

ورأى المجلس سنة 1938 أن خير موضع تُبنى فيه دار الكتب هو أرض سراي الإسماعيلية، وقرر في مارس من السنة نفسها الشروع في عمل مسابقة عالمية؛ لوضع التصميمات اللازمة للمبنى الجديد، وفى يونيو 1938 وافق المجلس الأعلى للدار على الرسم التخطيطي للمبنى الجديد، كما ورد للدار صورة من خطاب مصلحة المباني الأميرية لوزارة الأشغال بطلب اعتماد مبلغ مائة وخمسون ألف جنيه؛ لإمكان الشروع في تنفيذ المبنى الجديد. 

 

 

وفي يوليو 1938 كتب وزير المعارف – محمد حسين هيكل باشا- إلى وزارة المالية يطلب تخصيص جزء من الاعتماد المدْرَج في عام 1938 في ميزانية مصلحة المباني للبدء في المبنى الجديد لدار الكتب، ووُضعت الخطة بحيث يبدأ البناء سنة 1939، إلا أن نشوب الحرب العالمية الثانية قد عوق بدء البناء.

 

وفي سنة 1959، طالب ثروت عكاشة- وزير الثقافة ورئيس المجلس الأعلى لدار الكتب في ذلك الوقت- بتمويل مشروع المبنى الجديد للدار، من ريع أوقاف الدار. 

 

وفي 23 يوليو 1961، وُضع حجر الأساس للمبنى الجديد على كورنيش النيل برملة بولاق، وبُدىء في نقل رصيد الدار والموظفين إلى المبنى الجديد تدريجيا ابتداء من سنة 1971 وحتى 1978 وذلك بالرغم من عدم استكمال المبنى؛ لانتقال دار الوثائق التاريخية، والمكتبة المركزية من قصر عابدين إلى مبني باب الخلق.

 

وبالرغم من أن هذا المبنى خُصص في الأساس لدار الكتب المصرية ومراكزها العلمية ومطبعتها الملحقة بها، إلا أنه عند افتتاحه عمليا لم يخُصص لدار الكتب وشاركته الهيئة المصرية العامة للكتاب - التي أنشئت في سنة 1971 - لتضم دار الكتب المصرية ودار الوثائق القومية ودار التأليف والنشر، وتم افتتاحه في الثامن من شهر أكتوبر 1979. 

 

ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا المبنى الجديد يعرف باسم " الهيئة المصرية العامة للكتاب"، إلى أن صدر القرار الجمهوري رقم (176) لسنة 1993م بإنشاء "الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، والتي أصبحت تشغل حالياً المباني والمنشآت الآتية: المبنى التاريخي لدار الكتب بباب الخلق، مبنى الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية بكورنيش النيل، مبنى مخازن الهيئة بساحل روض الفرج (المبيضة)، مباني المكتبات الفرعية موزعة بأرجاء القاهرة الكبرى.

 


الخدمات التي تقدمها الدار

 

تقدم المكتبة بالدار العديد من الخدمات، من بينها إتاحة الاطلاع على المُقتنيات التراثية المُختلفة عـن طريـق استخدام أجـهزة العـرض الميكروفيلمي، وإتاحة الاطلاع على الكتب التراثية، وكذلك دوائر المعارف والموسوعات وكتب التراجم من خلال نظام "الأرفف المفتوحة" بقاعات الاطلاع، وإتاحة قواعد بيانات مبنى دار الكتب بكورنيش النيل من خلال خط ربط بينه وبين مبنى باب الخلق، والعمل على توفير نسخة مصورة من المقتنيات (ورقية - C. D)، بالإضافة إلى خدمات الإنترنت وإقامة المؤتمرات والندوات العلمية والثقافية المُرتبطة بالتراث.

 

وتضم قاعة العرض المتحفي بدار الوثائق مجموعة نادرة من المخطوطات والوثائق، تشمل عدداً كبيراً من البرديات والتحف النادرة والمصاحف الشريفة واللوحات الفنية والألبومات التذكارية والعُملات والمسكوكات ومجموعة من الطوابع التذكارية، وتقتني دار الكتب مجموعة نادرة من المخطوطات باللغات العربية والتركية والفارسية، وهي في مختلف العلوم (دين- أدب - فلك - طب - تاريخ - جغرافيا - لغة) .

 

ومن أهم المخطوطات العربية مجموعة المخطوطات الطبية التي تؤكد على مُساهمة الحضارة العربية والإسلامية في العلوم الطبية منذ القدم، ومن أقدم المخطوطات المعروضة والمكتوبة باللغة العربية كتاب "مشكل القرآن" لابن قتيبة الدينوري " 276 هـ /889 م"، والمخطوط منسوخ عام 379 هـ /989 م.

 

 

الحفظ إلكترونيا

 

مع تقدم الوسائل الإلكترونية الرقمية في مجال المعلومات وخاصة في مجال المكتبات والوثائق، لم تعد المكتبة قاعة ورفوفا ترتب عليها الكتب، ولم يعد البحث عن المراجع والوثائق يقتصر على مراجعة الفهارس، بل أصبح هناك مداخل البحث الآلي باستخدام الكمبيوتر، حيث يتم إعداد قوائم مصنفة للكتب مرتبة ترتيبا أبجديا، ولم يعد القائم على المكتبة مجرد مكتبي ينظم الكتب على الرفوف ويقدمها للباحث أو القارئ حين يطلبها، بل وثائقي متعدد الاختصاصات، ونتيجة لذلك فإن أسلوب التعامل مع الكم الهائل من المعلومات والوثائق يتطلب بدون شك تغييرا جذريا، فقد ظهر ما يسمى بـ"التسيير الإلكتروني للوثائق"، وأصبح هناك ما يعرف بـ"الوثيقة الإلكترونية".

 

 

كنوز دار الكتب والوثائق

 

تمتلك «الهيئة المصرية العامة لدار الكتب والوثائق القومية» نحو أربعة ملايين كتاب، ومائة وعشرة آلاف مخطوط، ومائة وستين ألف مجلد من الدوريات، وتسعة وثلاثين ألف مادة صوتية موسيقية، ونحو مائة مليون وثيقة بلغات مختلفة، منها العربية والتركية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والأمهرية، تصور تاريخ مصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي منذ العصر الفاطمي وحتى سبعينيات القرن العشرين.

 

وتغطي الوثائق الموجودة في الهيئة فترة تاريخية تصل إلى أكثر من 900 سنة، وهي نادرة ومتنوعة لا يوجد لها مثيل على مستوى العالم، فإلى جانب المصاحف المملوكية هناك حجج الأمراء، والسلاطين ومن أندر الموضوعات (المقتنيات) وثائق مهمة عن تاريخ العرب وأفريقيا والخليج، ووثائق عن علاقة مصر بالدول الأوربية.

 

أيضاً هناك وثائق الحاكم التشريعية منذ القرن السادس عشر ويرجع أهميتها إلى أنها تعطي صورة حقيقية عن تاريخ هذه الفترة التي تندر عنها المصادر المعرفية، حيث تتعرض لأحوال المجتمع من تجارة، علاقات اجتماعية، أساليب معيشية، قوانين، والمطلع عليها يمكنه من خلالها رسم صورة عن واقع المجتمعات في تلك الفترة.

 

وتستعرض «بوابة أخبار اليوم» في التقرير القادم أبرز تلك المخطوطات النادرة والتي لا يوجد لها مثيل على مستوى العالم .


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة