طاهر قابيل
طاهر قابيل


يوميات الأخبار

النهر الأصفر

طاهر قابيل

الإثنين، 02 ديسمبر 2019 - 07:33 م

«ورغم عدم معرفتى للغة الصينية المقدمة بها المسرحية فقد استمتعت بالإضاءة والموسيقى واللوحات الفنية التى عرضت بتقنيات عالية».

الأحد:
كانت الساعة تقترب من الرابعة بعد الظهر عندما هبطت الطائرة الإماراتية فى مطار «بكين» بعد رحلة طيران استغرقت 11 ساعة ونصف الساعة، بالإضافة إلى 3 ساعات «ترنزيت» بمطار «دبى» ومثلها قبل الصعود للطائرة بمبنى الركاب رقم 2 بمطار القاهرة.. استغرق إنهاء الإجراءات والحصول على الحقائب بمطار «بكين» أقل من ساعة.. فكل شىء هنا يعتمد على الأجهزة الحديثة وبصمات الأصابع والعين وليس للتدخل البشرى أى وجود سوى ضباط الأمن الذين يعطون «إذن الدخول» وختم «الجوازات».. فلا وجود لموظفى «علاقات عامة» أو عمال «شنط» داخل الدائرة الجمركية لاستقبال «فلان باشا أو علان بيه» أو للحصول على البقشيش فالكل هنا مواطن أو سائح سواسية.
كنت فى مهمة صحفية لحضور الدورة الثانية لورشة العمل لرابطة «الحزام والطريق» للتعاون الإخبارى والإعلامى التى تنظمها صحيفة الشعب اليومية ويشارك فيها 43 من أهم 41 وسيلة إعلامية فى 20 دولة ناطقة باللغتين العربية والروسية.. لم يترك المنظمون شيئا للصدفة فأرسلوا لى اللوحة التى سيرفعها أحد العاملين خارج «الدائرة الجمركية» وأسماء وتليفونات من سيكون فى استقبالى مع رسالة بالبريد الإلكترونى لمكان إقامتى وعنوانه وتليفونه بالعربية والصينية فى حالة فشلى فى العثور على أحد المستقبلين.. والحمد لله وجدت فى انتظارى «ميساء وسوسن» طالبتى الماجيستير بجامعة الصين وتتحدثان العربية وتعملان متطوعتين وآخرين من العاملين بالاتصال الخارحى بصحيفة «الشعب».
لم أستطع مقاومة النوم وأنا فى طريقى للفندق فالصين تتقدم عن مصر بـ 6 ساعات بمعنى أنه عندما يبدأ الصينيون يومهم فى السادسة صباحا يكون المصريون فى طريقهم للنوم فى منتصف الليل.. فمازلت أعانى من صدمة تغيير ساعتى البيولوجية وقد مر علىّ مستيقظا ما يقرب من 36 ساعة وكل أحلامى دش دافئ وسرير للنوم على الأقل 24 ساعة.. ولكن لا تأتى الرياح بما تشتهى السفن فبعد وصولى للفندق أدركت أن الصينيين لا يعرفون الراحة وأن الجملة التى قالها الرئيس «شى جين بينج» فى كلمته مع العمال المثاليين بأن حب الخمول وكره العمل عار هى جينات وراثية فى الشعب الصينى. فنشاطنا يبدأ صباح اليوم التالى مبكرا بحفل لافتتاح الدورة يلقى فيه قادة صحيفة الشعب كلمات حول الرابطة ثم الذهاب إلى الصحيفة وزيارة المركز الإعلامى الجديد والمطبخ المركزى وشركة النشر الرقمى وإقامة ندوة «أون لاين» مع المحررين بصحيفة الشعب يقطعهما وجبة الغداء فالصينيون يتناولون إفطارهم من السادسة والنصف صباحا وحتى الثامنة والنصف والغداء من الثانية عشرة ظهرا لمدة ساعتين والعشاء مثلهما فى السادسة مساء وباقى اليوم عمل ونوم للاستيقاظ مبكرا فى اليوم التالى.. وهو ما تم حرفيا بعد أن رافقنا «سعيد» طالب الماجيستير أيضا بالجامعة الصينية وهو شاب نحيل الجسم عمره 22 عاما والذى تولى الترجمة إلى العربية طوال الرحلة التى استغرقت أسبوعين وكان يخطف دقائق بالطائرة أو الأوتوبيس أثناء انتقالنا من مكان لآخر للمذاكرة والتحضير لعودته للدراسة بعد انتهاء مهمته التطوعية.
الثلاثاء:
كان اليوم الأول لورشة العمل بداية مبشرة فحفل الافتتاح ضم كلمات من «فانج جيانج شان» نائب رئيس تحرير صحيفة الشعب اليومية والذى دعانى إلى «عشاء عمل» فى اليوم التالى للترحيب وتبادل الأفكار والتعرف على مجلس إدارة «رابطة الحزام والطريق للتعاون الإخبارى والإعلامى، كما ألقى كلمات كل من «لى تشى تشيانج» نائب مدير قسم التبادل والتعاون الدولى بالصحيفة و«جيانج شو فان» نائب سكرتير لجنة الحزب الشيوعى بجامعة الصين للإعلام وممثلون عن المجموعتين العربية والروسية.. وتم عرض فيلم للدورة الأولى والتى أقيمت بمشاركة 50 صحفيا من وسائل الإعلام بأمريكا اللاتينية وأفريقيا وأتيحت لهم الفرصة للتعرف على الصين المتنوعة والمنفتحة وفتح آفاق جديدة للتعاون وتعزيز التبادلات بين وسائل الإعلام.. والتأكيد على أن الدورة الثانية التى أشارك فيها ستكون تحت عنوان «عصر جديد وأفكار ووسائط وتكنولوجيا جديدة».
لم يختلف الجهد المبذول فى الأيام الثلاثة التالية عن اليوم الأول فتضمن محاضرات بجامعة الإعلام والتكنولوجيا الصينية من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء تناولت النموذج الصينى والوحى منه والإعلام الجديد واتجاهاته وتطوره وعن نمو الاقتصاد الصينى وإنجازاته وتحدياته والتطور الثقافى والاجتماعى بالصين ومحاربة الفقر وتنمية المناطق الفقيرة وكيف تغيرت صورة الحياة للصينيين والذين كانوا يعيشون مثل حياتنا فى الستينيات من القرن الماضى من وحدات سكنية ضيقة والحصول على الاحتياجات بالبطاقة حتى اجتهدوا وبذلوا مجهودات خارقة لإحداث النهضة التنموية والاجتماعية وتحسين حياة المواطن واحتلال مقدمة الدول النامية وفى طريقهم الآن للقضاء على الفقر نهائيا.. وتخللت أيام المحاضرات زيارتان لوكالة أنباء الصين «شينخوا» والمتحف التاريخى لتطور وسائل الإعلام... وشاهدت بالمتحف كيف بدأت الإذاعة الصينية والمواقف التى عاصرتها وتطور التليفزيون والاستديوهات ومختلف الوسائل الإعلامية واختتمت الأيام الخمسة التى قضيانها فى العاصمة «بكين» بزيارة رائعة للتاريخ وصعدت لإحدى عجائب الدنيا السبع «سور الصين العظيم» بالتليفريك وتجولت بين أحجاره التى لو نطقت لتحدثت عن حضارة وتاريخ عظيم للأجداد وجدية فى العمل للأحفاد... وعدت للفندق بعد أن تناولت وجبة الغداء فى أحد المطاعم بين الحضارة الصينية القديمة لإسرع إلى «المول» القريب لشراء «آيس كاب وجونتى» وملابس ثقيلة فغدا سنكمل ورشة العمل بالسفر إلى مقاطعة «قانسو» فى شمال غرب الصين والتى تنخفض بها درجات الحرارة إلى أقل من الصفر ليلا.
الخميس:
مشهد السحب الممطرة من الطائرة فى سماء مدينة «لانتشو» عاصمة مقاطعة «قانسو» ينذرنى بأننا مقبلون على جو قارص البرودة.. قضيت ثلاثة أيام فى مقاطعة «النهر الأصفر» والتى تعد أهم ممر تجارى على طريق الحرير فى الشمال الصينى.. المكان هنا بين الجبال الملونة رائع الجمال والطريق من المطار إلى قلب العاصمة «لانتشو» يبشر أن من خططه ينظر للمستقبل.. فقد اختار مساحات وحارات مرور تستوعب الزيادة فى السيارات كما يحدث لدينا الآن فى شبكة الطرق الجديدة.. ورغم رغبتى بالذهاب للفندق للراحة انستنى الجولة الرائعة التى قضيتها فى المتحف الذى يحكى التطور التاريخى والحضارى للعاصمة والمقاطعة.. والسير على ضفاف «النهر الأصفر» والوصول إلى ساحة التنزه التى تضم «ساقية عملاقة» كانت تستخدم قديما لنقل مياه إلى السكان لرى الأراضى وتحويلها إلى مزار سياحى وممشى للسكان والزائرين مع تجميل وزراعة الأشجار على جوانب النهر وتزين كل مكان باللون الأخضر والإضاءة أى رغبة لدى فى الراحة.. فالمشهد عند الغروب فى منتهى الروعة ومياه النهر الأصفر تتدفق متسارعة والسكان يتنزهون بحرية ويرقصون ويلتقطون الصور التذكارية.. وعندما سألت لماذا سمى النهر بهذا الاسم قيل لى إن مياهه تأتى من الجبال محملة بالطمى باللون الأصفر.
رغم الهدوء وجمال مشهد «النهر» من غرفتى بالدور الثانى عشر بالفندق والإضاءة الملونة المعلقة على الكبارى والأشجار كان نومى متقطعا لأستيقظ فى اليوم التالى مبكرا لنذهب إلى منطقة الميناء الجاف الدولية وتتنقل عينى طوال الطريق الذى استغرق أكثر من ساعة بين مشاهد الخضرة والجبال والتى هذبت أحجارها الملاصقة للطريق.. وأتجول فى الميناء البرى وأشاهد خطوط القطارات العملاقة السريعة التى تنقل الصناعات الصينية داخل وخارج الصين وأصعد فى قافلة من سيارات الدفع الرباعى إلى منطقة جبالية كانت فى الماضى البعيد ممرا لغزوات من الدول المجاورة تم تحويلها وتمهيد الطريق بها لتكون مزارا سياحيا جذابا وسط الجبال الملونة بفعل المعادن بها.. وبعد هبوطنا من الجبل أتجول فى القرية القديمة على نهر «اليانجستى» التى تم تطويرها مع الحفاظ على آصالتها وأدخل مبانى تحكى تاريخها مع وجود متحف صغير وأشاهد الكبارى العملاقة والمعلقة لمرور خطوط القطارات السريعة والتقط بعض الأطعمة من الصناعات الريفية التى تبيعها السيدات مع أنواع من الخضراوات التى يقف بجوارها المأكولات والمشروبات المصنعة حديثا وأختتم يومى بمشاهدة مسرحية «رحلة الراهب الصينى «شوان تسنج» إلى الغرب» على المسرح الكبير فى لانتشو.. ورغم عدم معرفتى للغة الصينية المقدمة بها المسرحية فقد استمتعت بالإضاءة والموسيقى واللوحات الفنية التى عرضت بتقنيات عالية.. كما تناولت فى صباح اليوم التالى المكرونة المصنوعة يدويا والتى تشتهر بها مقاطعة «قانصو».. وحضرت حفلة زفاف صينى وزرت منطقة الزراعات الحديثة النموذجية بالمنطقة الجديدة وتعرفت كيف نفضت المقاطعة سنوات الفقر وامتدت لها يد الإصلاح والتنمية فأصبحت من المقاطعات المبهرة.
السبت:
لقد زرت أماكن كثيرة فى «قانسو» لا تسعفنى الذاكرة لتذكرها لأغادر بعد ثلاثة أيام، فى صباح اليوم التالى بالطائرة إلى مدينة «تشنغدو» بمقاطعة «ستيشوان» وأشاهد مدى التقدم الذى وصلت إليه وأزور معرض التخطيط الحضارى وميناء «تشينغ باى جيانغ» الدولى للسكك الحديدية واسافر فى رحلة بقطار شحن إلى أوروبا باستخدام تقنية «الفايف دى».. وأتجول فى المتحف الوطنى والتخطيط العمرانى وأماكن للحفريات والآثار وأتعرف على مدى اهتمام الصين بتأهيل طلاب التعليم الفنى بمركز للتدريب المهنى والذى يضم أحدث المعدات وأتجول فى مصنع للمعدات الثقيلة وخاصة المستخدمة فى البحث عن البترول والغاز وآخر للألبان له مزارع فى نيوزلاندا.. وأختتم زيارتى للمقاطعة بزيارة مهد «الباندا» وأتعرف على تربيتها وما تبذله الصين لحمايتها من الانقراض وهى حديقة رائعة الجمال تحاكى حياة الباندا الطبيعية.. وأتجول فى منطقة ترفيهية وأثرية مثل «خان الخليلى» وأشاهد صناعات تاريخية وأزور إحدى الحدائق على نهر تكون من مياه السيول وحولته الأيدى الصينية إلى متحف طبيعى ممتع وخاصة عندما تعبر على الكبارى الخشبية ذات الحبال وهى تتحرك بك يمينا ويسارا وترى أسفل منك مياهه النقية تجرى مسرعة وأشاهد صناعة الورق والطباعة بالطرق القديمة وأتناول طعام العشاء فى مطعم تاريخى أمامه مسجد وسط محلات تبيع الملابس والصناعات اليدوية لأعود فى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل إلى العاصمة الصينية «بكين» لأحضر فى الصباح حفل الختام بالجامعة الصينية وأتجول لسويعات قليلة بين البضائع ذات الجودة العالية داخل أحد المولات القريبة من الفندق لأبدأ فى الثالثة فجرا رحلة العودة للقاهرة بعد قضائى أسبوعين فى بلاد «التنين» التى تنطلق بسرعة الصاروخ.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة