جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

بين الغضب والموت

جمال فهمي

الخميس، 05 ديسمبر 2019 - 07:27 م

 

ليس عندى تعليق على حادث الانتحار المروع لشاب مهندس صغير السن، سوى الاقرار بأن أسباب الغضب والاكتئاب والتحريض على الانتحار فى واقعنا الراهن كثيرة جدا، والحال أن العبد لله كتب ذات يوم من أيام الأستاذ حسنى مبارك وولده سطورا عن الغضب تحت عنوان «انظر حولك بغضب» وبدأتها بإشارة مسهبة لمسرحية «انظر خلفك بغضب» التى كتبها المسرحى البريطانى جون أوزبورن(1929 ـ 1994) وصارت بعد عرضها فى العام 1956 على خشبة «رويال كورت» اللندنى واحدة من أشهر مسرحيات القرن العشرين إذ أطلقت ما يسمى تيار «مسرح الغضب» الذى نافس بقوة تيارى «مسرح العبث» ومسرح الالتزام بـ»الواقعية الاشتراكية»، وإن اشترك معهما فى الموقف النقدى من الواقع الاجتماعى والإنسانى المشوه الذى خلفه جشع النظام الرأسمالى وبلغ ذروته المأساوية فى الحربين العظميين الأولى والثانية اللتين أزهقتا أرواح عشرات ملايين البشر فى محدلة هائلة (على قسطين) لم يعرف التاريخ الإنسانى لها مثيلا فى الدموية والتوحش والخراب.
قلت فى هذه السطور القديمة ما خلاصته أن دعوة «أوزبورن» الغاضبة التى لباها مسرحيون وكتاب بارزون من مواطنيه (أمثال هارولد بنتر وجون آردن وسواهما) تصلح لنا آنذاك، لكنها تحتاج إلى تعديل طفيف يناسب حالتنا، فمشكلتنا ليست تماما مع الماضى الذى لا أجادل أن فيه ما يستحق الغضب فعلا، غير أن محنتنا الحقيقية أننا تخلفنا وتأخرنا حتى عن هذا الماضي.
وأعود إلى حكاية مسرحية أوزبورن التى ملخصها ان الشخصية المحورية فيها المدعو جيمى بوتر، يبدو دائما شابا ساخطا خصوصا منذ تخرجه فى جامعة بائسة يدخلها أمثاله من الفقراء، وهو لا يتوقف عن اعلان غضبه وكراهيته للمجتمع، وإذ لا يجد «جيمي» مكانا يعبر فيه عن طاقة الغضب الذى يملؤه فإنه يفرغ هذه الطاقة فى زوجته المسكينة -أليسون- التى برغم حياة الجحيم التى تعيشها معه لا تبدى أى شكل من المقاومة وتواجه العنت والقسوة بصبر لا ينفد، وتظل على هذه الحال حتى تحمل، لكن الزوج يواجه حملها بالمزيد من السوء والغضب، فهو مقتنع بأنه لا يجب ان يمد هذا المجتمع الفظيع بذرية تنال نصيبها من هذه الفظاعة.
هنا عند هذا الحد تدخل على أحداث المسرحية شخصية جديدة هى صديقة لأليسون تحاول ان تقنع هذه الأخيرة بالهرب من تلك الحياة التعسة التى تحياها مع جيمى، غير ان الزوج يوقع صديقة زوجته ويقيم معها علاقة مؤقتة قبل أن تنتهى المسرحية بوقائع غريبة جدا يعود فيها الزوج لزوجته بعد ان تجهض جنينها، وتطرد صديقتها، ويبدو فى النهاية أن الزوجين توفقا على حياة الغضب والتعاسة.
انتهت وقائع المسرحية (أو ملخصها المخل) غير أننى لا أستطيع أن أختم هذه السطور من دون الإشارة إلى شيئين مهمين،أولهما اننى حين استعنت بمسرحية -انظر خلفك بغضب- لم اقصد التحريض على القنوط واليأس والانتحار، وإنما كان مقصدى الغضب الساطع النبيل الذى يضىء العقل ويدفع لإصلاح الحياة وإزالة أسباب بؤسها ومرارتها.
فأما الشىء الثانى فهو اعتذار واجب لأنى نسيت الاشارة إلى حقيقة أن مؤلف المسرحية جون اوزبورن نفسه خلط فى حياته بين «الغضب»المشروع و»الكراهية» المقيتة، فقد أمعن فى حياة العدم والعربدة حتى اضمحلت موهبته رويدا رويدا وهبطت قيمة إنتاجه الإبداعى وتحول إلى مجرد رجل سكير عدوانى يكره نفسه والناس، وظل يتردى ويتنقل من فشل إلى فشل حتى مات رسميا بعد سنين طويلة من الموت والانتحار البطىء.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة