جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

الصحافة فى «الأدغال»

جمال فهمي

الخميس، 12 ديسمبر 2019 - 07:36 م

علاقة الأدب بالصحافة علاقة معروفة وقوية جدا، دليل ذلك ليس دليلا واحدا وإنما ألف على الأقل ربما أهمها هذه الكوكبة الرائعة من كبار الأدباء البارزين محليا وعالميا الذين انتسبوا إلى مهنة الصحافة لعل أشهرهم الروائى الكولومبى ذائع الصيت جابرييل جارسيا ماركيز الذى لم يفقد فى عدد ليس قليلا من إبداعه، أسباب اتصاله المباشر بفنون المهنة.
هذه مقدمة ضرورية لكى أكتب لك اليوم عن واحدة من أهم تحف الأدب الأمريكى المعاصر، وأقصد رواية «الأدغال» للأديب الصحفى آبتون سنكلير الذى شرع فى كتابتها لتكون تحقيقا صحفيا أنفق فى إعداده بضع سنوات كان خلالها يتتبع بجد ودأب أوضاع صناعة اللحوم فى ولاية شيكاغو حيث أباطرة هذه الصناعة التى تمد أمريكا كلها باللحوم الطازج منها والمعلب.
أنهى سنكلير هذا التحقيق الضخم فى العام 1905، لكنه تراجع عن نشره كمادة صحفية وإنما قرر أن يصوغه فى صورة رواية أحدثت عند صدورها آنذاك ضجة هائلة فى المجتمع وفى أوساط الحكم معا، حتى أن الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت تيودور روزفلت، استقبله فى البيت الأبيض، فقد قرأ الرئيس الرواية بذهول كما كل القراء من المواطنين العاديين، وقرر أن يستدعى كاتبها ليسمع منه مباشرة المزيد من التفاصيل والتوضيحات بشأن الفضيحة المروعة التى تكشف عنها الرواية، ويحكى سنكلير أمام الرئيس ما شاهده بعينه وما تحقق منه ووثقه خلال رحلة البحث الطويلة التى انتهت بكتابة هذا العمل، وقد عدد أمام الرئيس آيات مروعة من صور الفساد الإجرامى المستشرى فى دهاليز هذه الصناعة الحيوية التى تدخل منتجاتها جوف المواطنين، إذ تحتوى هذه المنتجات على سموم حقيقية ابتداء لحوم يتم تخزينها لفترات طويلة فى ظروف حفظ بالغة السوء وتباع فى الأسواق على أنها لحوم طازجة، ولحوم مصنعة تحتوى على جلود خنازير وفئران ميتة وحشرات، بل إن الأمر يصل أحيانا إلى حد فرم جثث بشرية لعمال ماتوا وهم يكابدون ظروف العمل الوحشية.
ويبدو أن ما قاله الروائى الصحفى للرئيس روزفلت كان متماسكا ومقنعا حتى أن الأخير أصدر على الفور قرارا بتشكيل لجنة تحقيق رسمية فيدرالية للبحث فى هذا الموضوع، وانتهى التحقيق إلى إثبات صحة كل الوقائع الإجرامية التى تضمنتها رواية «الأدغال».
لقد استطاع آبتون سنكلير فى روايته (أو تحقيقه الصحفى) أن يقدم للناس وجها آخر مروعا لأسطورة الحلم الأمريكى الذى داعب رءوس ملايين البشر حول العالم، ودفع الكثيرين للهجرة إلى أرض الحلم ومنهم تلك العائلة الليتوانية التى هاجرت لأمريكا فى نهاية القرن التاسع عشر واستقرت فى شيكاغو، بينما تداعب أحلامها أمنيات الخلاص من حياة البؤس والظلم والاستغلال وترفل فى نعيم البحبوحة والثراء فإذا بهذه العائلة تواجه وحوش الرأسمالية، ويشاهد أفراد العائلة بأم عيونهم جرائم شنيعة لا تتورع هذه الوحوش الضارية عن ارتكابها وهى تراكم أكداس متلتلة من الثروات الحرام.
تحكى الرواية على لسان بطلها المدعو «جورجيس» المنتمى إلى تلك العائلة المهاجرة الوقائع المذهلة التى عايشها (أو بالأحرى، عايشها الكاتب نفسه) وتلقى ضوءا ساطعا ليس فقط على حقيقة أساطير الفردوس الأمريكى وكيف تحول فى ظل هيمنة وحوش الرأسمالية إلى جحيم وصار المجتمع تحت وطأته أشبه بـ «أدغال» تعربد فيها تلك الوحوش. ولكن حكاية هذه الرواية تؤكد أيضا حقيقة أخرى، وهى أن الصحافة، عندما تنطلق متمتعة بحريتها كاملة، تصير سلاحا بتارا فى خدمة الناس وعينا لهم تبصر مناطق العفن والإعوجاج.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة