أيمن منصور ندا
أيمن منصور ندا


يوميات الأخبار

بجماليون: عندما يغضب العشاق!

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 16 ديسمبر 2019 - 07:52 م

غضب العشاق ومعارضتهم لا تحسبوه شراً للأوطان بل هو خير.. وربَّ عاشق غاضب ثائر، خير من عاشق مؤيد قانع..

 فى الأساطير الإغريقية واليونانية القديمة توجد قصة «بجْماليون» ؛ فنَّان نحَّات، أودع كلَّ عبقريته فى نحت تمثال لامرأة جمع فيها كلَّ آيات الجمال والحسن البشرى (ست الحسن كاملة الأوصاف)، ووقع فى غرامه وغرامها، وبدأت تظهر عليه علامات الشقاء والمرض بسبب هذا العشق، وهو ما جَعَل ربَّة الحب والجَمال «فينوس» تتعاطف معه وتقرر بث «الروح»فى هذا التمثال، وتحوَّل التمثال إلى فتاة (جالاتيا) فائقة الحسن رائعة الجمال.. غير أن التحولات البشرية تقضى بأن تحب «جالاتيا» شخصاً آخر غير «بجماليون» الذى صنعها وأبدعها، وتزداد معاناته، فتتدخل «فينوس» وتُحوِّل «جالاتيا» إلى تمثال مرة أخرى، فينهال عليه «بجماليون» محطماً إياه، لتنتهى قصة إبداع وعشق وجمال إلى ذرات تراب وألواح رخام مكسور..
عندما يغضب العشاق، يتساوى الوجود والعدم، وتتبدل الوجوه، وتتغير الأقنعة، وكذلك القناعات.. لذلك قيل:اتق شرَّ العاشق إذا غضب..عندما يغضب العشَّاق، تراهم فى كلّ وادٍ يهيمون، وقد يقولون ما لا يقصدون.. أشدُّ الناس عشقاً هم أكثر الناس نقداً لتجاهل محبيهم، وأكثرهم شعوراً بالغُبْن إذا ما قَصَّر هؤلاءِ المحبّون فى حقهم.. رادارات العشَّاق أكثر حساسيةً لأى تغير فى أفق المشاعر، وأكثر إدراكاً لأى تحول فى ألوان الطيف العاطفي.. إحباطاتهم مساوية لشدة توقعاتهم فى المقدار، ومضادة لها فى الاتجاه.. لذلك لا تستهن بعاشق شعر بالظلم، ولا تقلل من ثورة محب عانى جحود من أحب.. فقد تفاجأ بما لا تتوقعه، وقد تجد ما لا يساعدك الخيال على تصوره..
كثيرٌ من العشاق يعتقد ما كان يعتقده المتنبى من أنه لا يحتاج إلى الإفصاح عن عشقه ولا عن مبرراته ما دامت معشوقته تعلم بذلك «وفى النفس حاجات وفيك فِطانةٌ.. سكوتى بيان عندها وخِطابُ».. وبعضهم يحترق بنار الشوق إن لم يفصح عن أحزانه وعما يسبب له الضيق كما أشار إلى ذلك جرير «ما كُنتُ أَوَّلَ مُشتاقٍ أَخا طَرَبٍ.. هاجَت لَهُ غَدَواتُ البَيْنِ أَحزاناً»..وبعضهم لا يجدى معه القول أو السكوت كما هى حالة مجنون ليلى «فلا وصلٌ يبردُ فيه قلبى.. ولا صبرٌ، وهل يجدى اصطبارى».. وبعضهم يرى أن يسلك فى عشقه طرقاً ومسارات لا يسلكها أحد غيره كما قال البارودى «أسير على نهج يرى الناس غيره... لكلّ امرئ فيما يحاول مذهبُ».. غير أن «كل الطرق تؤدى إلى روما» فى نهاية المطاف : حيث الشعور بالظلم وبالغدر، و»لابد من «عدن» وإن طال المدى» كنهاية محتومة لكل قصص العشق البشرى.. العشاق لأوطانهم هم أكثر الناس حساسيةً تجاه مشكلات أوطانهم، وأكثرهم غيرةً عليها.. كل عاشق لوطنه هو فى النهاية «بجماليون»؛ يرسم الوطن كما يحسه، وكما يشعر به، وكما يتمناه.. الأوطان قد تكون، فى بعض الأحيان، جاحدةً وقاسيةً على أبنائها المخلصين المحبين الذين لا يملكون إزاء ذلك سوى الاستسلام لهذا الجحود «بلادى وإن جارت عليَّ عزيزةٌ.. وقومى وإن ضنَّوا عليَّ كرام».. أو الغضب الممزوج باللوعة وإعلان النفير العام فى الشكوى «شكوتُ وما شكواى ضعف وذلة.. فلست بمستجدٍ ولا طالباً يداً».. غضب العشاق ومعارضتهم لا تحسبوه شراً للأوطان بل هو خير.. وربَّ عاشق غاضب ثائر، خير من عاشق مؤيد قانع..
البارودى: وإنذار شديد اللهجة
محمود سامى البارودى، إحدى الشخصيات البارزة سياسياً وعسكرياً وأدبياً أثناء الثورة العرابية.. وتم نفيه إلى «سرنديب» عقاباً له على مواقفه الوطنية..أشعار البارودى هى أشعار وطنية فى المقام الأول.. غير أنه كان كثيراً ما يشعر بغصّة فى حَلقِه من عدم التقدير«فإن يكن ساءهم فضلى فلا عجب»، وكثيراً ما كان يشعر بالإحباط نتيجة عدم اتباع رأيه فى كثير من المواقف «وكان أولى بقومى لو أطاعوني».. أشعار البارودى الغاضبة كانت أسواطاً على ظهر هذا الوطن، وكانت صرخات عاشق فى البرية مستنجداً بربها وببارئها.. فى قصيدة شائعة مطلعها «قلدتُ جِيد المعالى حِلية الغزل»، وصف البارودى المصريين بأنهم قوم سوء، وأنهم أهل زور وظلم وجور، وأنهم يعيشون فى ظلام دامس، وأن أرض مصر هى أرض الغدر والزلل «بئس العشيرُ وبئست مصر من بلد... أضحت مناخاً لأهل الزور والخطل... أرض تأثل فيها الظلم، وانقذفت.. صواعق الغدر بين السهل والجبل»!!
شاعر النيل : بركان ثائر
حافظ إبراهيم، الذى تغنت له السيدة أم كلثوم بأشهر الأغانى الوطنية «وقف الخلق ينظرون جميعاً.. كيف أبنى قواعد المجد وحدى» ، كان الأكثر غضباً على مصر وعلى شعبها فى مواقف عديدة، عندما لم يجد التقدير الكافى، وعندما لم يشعر بالحفاوة المناسبة.. لحافظ قصيدة مطلعها «حطمت اليراع فلا تعجبي»، يشير إلى كون مصر بلد سوء وينفى كونها بلدة طيبة «فما أنت يا مصر دار الأديبِ.. ولا أنت بالبلدِ الطيبِ» ، ويصب جام غضبه على الشباب المصرى الذى يراه أكثر خطورة على مصر من الاحتلال الأجنبى «يقولون : فى النشءِ خيرٌ لنا.. وللنشءُ شرٌّ من الأجنبي».. فى قصيدة أخرى، وصف حافظ إبراهيم مصر بأنها أمة إلى زوال لما فيها من ظلم وجور وعدم تقدير لأبنائها النابغين «فيا أمةً آذنت بالزوال.. رجعنا لعهد الهوى فارجعي»!!
أمير الشعراء : عرابى خائناً
أحمد شوقى أبلغ الشعراء فى العصر الحديث، صاحب القصائد الطوال فى حب مصر وعشقها، ويكفيه «كبار الحوادث فى وادى النيل».. وعندما تم نفيه إلى إسبانيا كانت قصائده الباكية فى حب الوطن وفى الشوق إليه وفى استنكار إجباره على الصمت «أحرامٌ على بلابله الدوحُ.. حلالٌ للطير من كل جنس».. وكثيراً ما أشار إلى شوقه إليها وإلى جرعة من ماء نيلها «يا ساكنى مصر إنا لا نزال على... عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينا... هلا بعثتم لنا من ماء نهركموا... شيئاً نبل به أحشاء صادينا»... رغم هذا الوله بمصر، فقد كان له مع الزعيم أحمد عرابى موقف شائع.. شوقى الذى استنكر أن يخون أولاد إسماعيل « أأخون إسماعيل فى أولاده.. وقد وُلِدتُ بباب إسماعيلا».. كان يرى فى أحمد عرابى إماما للخائنين، وزعيماً للمتمردين.. وعندما عاد عرابى من منفاه استقبله شوقى بعدة قصائد هجائية صادمة «صغار فى الذهاب وفى الإياب.. أهذا كل شأنك يا عرابي».. و«عرابى كيف أوفيك الملاما... جمعت على ملامتك الأناما».. و«أهلا وسهلاً بحاميها وفاديها... ومرحباً وسلاماً يا عرابيها»..
 نجيبيات
الشاعر المبدع الذى ظُلِم حياً وميتاً «نجيب سرور»، كانت تجربته فى الصراخ والتوجع من الظلم المجتمعى له تجربة فريدة نشرها فى ديوان كامل، انتقد فيه الأوضاع السياسية والاجتماعية والفنية المتردية فى مصر من وجهة نظره.. رغم كونه القائل لابنه شهدى (الذى توفى مؤخراً)، فى قصيدة بديعة «يا بنى بحق التراب، وبحق حق النيل.. لو جعت يا بنى ولو شنقوك ما تلعن مصر.. اكره.. واكره.. واكره.. بس حب النيل.. وحب مصر اللى فيها مبدأ الدنيا.. دى مصر (يا شهدى) فى الجغرافيا مالها مثيل.. وفى التاريخ عمرها ما كانت التانية»..
أكرهها وأشتهى وصلها!
من أبلغ القصائد التى وصفت هذه الازدواجية فى الشعور : الحب المطلق والغضب الثائر، الولاء التام والاغتراب الكامل، لدى عشاق الوطن، ما كتبه صلاح جاهين فى قصيدته المشهورة «على اسم مصر».. وصف فيها جاهين مشاعره ومشاعر كل وطنى غيور بقوله «بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء.. واكرهها وألعن أبوها بعشق زى الداء.. واسيبها واطفش فى درب.. وتبقى هى ف درب.. وتلتفت تلتقينى جنبها فى الكرب..»
ليست كل المعارضة حراماً، وليس كل المنتقدين خونة، وليس كل من يحاول الإصلاح له أجندات خارجية.. وقد يكون بعضهم الأشدَّ حباً لهذا الوطن.. إنها معادلة الحب والكراهية، والافتنان والنفور عند عشاق هذا الوطن عندما يغضبون.
أستاذ ورئيس قسم الإذاعة والتليفزيون
كلية الإعلام - جامعة القاهرة

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة