مقبرة السفن.. سيلفي يروي مأساة اختفاء مياه بحر الآرال
مقبرة السفن.. سيلفي يروي مأساة اختفاء مياه بحر الآرال


حكايات| مقبرة السفن.. سيلفي يروي مأساة اختفاء مياه بحر الآرال

د.محمد كمال

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019 - 04:42 م

 

باسم «إعمار الأرض» تُنتهك الطبيعة، وبعنترية البشر في كثير من الأمور، يُضرب بالتوازن البيئي عرض الحائط، وهذا ما حدث مع أحد البحار في آسيا الوسطى.

 

«الآرال» بحر داخلي يقع بين أوزبكستان جنوبًا وكازاخستان شمالًا، ويحتل أخفض أجزاء حوض طوران الواسع، عرفه جغرافيو العرب ببحر «خوارزم» وأطلق عليه الروس في القرن السابع عشر اسم «البحر الأزرق»، ويعتبر تدخل الإنسان هو المسئول الأول عن أزمة جفافه هو والمنطقة المحيطة به.

 

احتفظ البحر قديمًا على مساحة تغطي 68 ألف كم2، وأقصى عمق فيه 68 مترًا، وحتى أواخر القرن العشرين كان يُعد رابع أكبر بحيرةٍ مالحةٍ في العالم؛ حيث احتوى على 10 جرامات من الملح لكل لتر، وتفصله هضبة «أوست أورت» وتتصل به صحاري قيزيل قوم، وقره قوم الرملية، وفيه جزر كثيرة، ويسكن بجواره بعض رعاة الماشية، كما يوجد فيه مرفأ آرال يستخرج الملح منه وفيه مصائد للسمك لإنتاج الكافيار.

 

 

ظل بحر «الآرال» يعتمد على كل من نهر أمو داريا وسير داريا في التغذية والإمداد بالماء؛ حيث اتصلا به من خلال الجزء الجنوبي والشمالي، وكان مركزًا مهما لاستخراج الملح وعاشت فيه أسماك تتكيف مع نوعية ملوحة المياه، وهي 24 نوعاً من الأسماك، 12 منها يحمل قيمة تجارية، ويُصطاد منه سنوياً نحو 500 ألف طن من الأسماك، اختفى نحو 20 نوعاً من هذه الأسماك بصورة نهائية مع نهاية الثمانينات أهمها الحفش والشبوط وبعض السلمون والرخويات ذات الصدفتين.

 

أما عن أعماق هذا البحر فحدث ولا حرج؛ إذ تواجد فيها الديدان والهلاميات والحشرات ويرقان البعوض، وفقد البحر قيمته التجارية وخسر كثيرون مصدر رزقهم، علاوة على ذلك، تحولت المساحات الجافة من البحر إلى بؤرة عملاقة لتراكم الأملاح، وتشكيل العواصف الملحية.

 

الذهب الأبيض 

 

بدأت المأساة نتيجة قرارات غير مدروسة اتخذتها وزارة الإصلاح الزراعي والثروة المائية في حكومة الاتحاد السوفيتي آنذاك برئاسة الرئيس السوفيتي جورباتشوف في نهاية حقبة الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي، بتحويل مجرى الأنهار التي تصب في البحر حتى تتمكن من ري المنطقة الصحراوية المحيطة بالبحر، لإنشاء برنامج لتطوير الزراعة في محيط «بحر آرال»، لزراعة الأرز، والبطيخ، والحبوب، وأيضا، القطن.

 

 

سلسلة القرارات هذه كانت جزءا من خطة طموحه وضخمة لزراعة القطن، أو كما يُطلق عليه «الذهب الأبيض» للتصدير، ولا يخفى على أحد أن «أوزبكستان» اليوم واحدة من كبرى الدول المصدرة للقطن، مفضلين بذلك الزراعة على تغذية حوض «بحر آرال».

 

ترتب على ذلك حرمان البحر من مصدرين رئيسيين للمياه، ما قلل على الفور تقريبًا من وصول الماء إلى البحر، ولم تُحوَّل كلّ هذه المياه إلى قنواتٍ على حساب إمداد «بحر آرال» فقط، بل إنّ الغالبية العظمى منها امتصتها الصحراء وهُدرت بشكلٍ صارخٍ بنسبة تراوحت ما بين 25 إلى 75% منها.

 

أمام ذلك تناقص مستوى المياه في «بحر آرال» بشكلٍ كبيرٍ منذ عقد الستينيات فصاعدًا، ما أدى إلى جفافه وتراجعت مساحته تدريجيا إلى أن أصبح عام 2008 يغطي حوالي 10% من مساحته الأصلية، ومن المتوقع أن يجف نهائيًا بحلول عام 2050.

 

 

 

في الظروف العادية كان «بحر آرال» يحصل على خُمس إمداداته من المياه تقريبًا من الأمطار، في حين يحصل على الباقي من نهري «أمو داريا وسير داريا»، فيما يؤدي التبخر إلى انخفاض مستوى المياه بنفس المقدار الذي يتدفق إلى البحر، مما يجعله مستدامًا طالما أنّ معدل التدفق يساوي معدل التبخر في المتوسط.

 

وبعد تدخل العنصر البشري للعبث بالطبيعة حدث خلل بالتوازن البيئي وساهم تحويل مجرى الأنهار بشكل مباشر في جفاف البحر ببطء على مدى العقود الأربعة الماضية، حتى تحول إلى أكبر «مقبرة للسفن» في العالم.

 

بمرور الوقت، بات انكماش بحر آرال أحد أسوأ الكوارث البيئية على الأرض، ووصف الخبراء استنزاف هذا البحر كأسوأ كارثة بيئية على الكوكب حدثت بصنع الإنسان، وبسببه انهارت صناعة الصيد التي كانت مزدهرة في المنطقة مُسببة البطالة والركود الاقتصادي.

 

 

وأصبحت المنطقة أيضًا ملوثة بيئيًا بشدة، ما سبب عواقب خطيرة على الصحة العامة للسكان، وتسبب انكماش «بحر آرال» في تغيرات مناخية، حيث صار الصيف أشد حرارةً وجفافًا، والشتاء أطول وأكثر برودةً.

 

قبل نصف قرن، كانت مدينة «مويناك» الواقعة في لكاراك الباكستانية غرب أوزبكستان واحدة من كبرى المدن الساحلية الواقعة على ضفاف «بحر آرال» وتضم أكبر ميناء باكستاني، كما كانت تزخر بثروة سمكية كبيرة، بل توفر هي والمدن القريبة منها حوالي 160 طنًا من الأسماك يوميًا.

 

أما اليوم فتفرقت مدينة «مويناك» عن البحر وابتعدت عنه بمساحة تفوق 150 كيلومتر، حيث اختفت المياه التي كانت ترسو فيها السفن في مدينة «مويناك»، وتسببت بنفوق الأسماك، فانهارت صناعة الصيد تمامًا في المنطقة، وهو الذي كان يعد مصدر الدخل الأول لأكثر من 40 ألف شخص، وتسبب ذلك في ارتفاع معدلات البطالة وحالة من الركود الاقتصادي، وظهر قاع البحر يغمره لون الملح الأبيض وأصبح والأرض سواء.

 

 

والآن تستقر سفن الصيد الصدئة المهجورة في قاع البحر الرملي أشبه بعظام الديناصورات الكبيرة التي كانت تبيض في أشعة الشمس، وأصبح التقاط صور السيلفي من السفينة المقبرة ضرورة للزائرين من أجل نشرها على موقع إنستجرام، ما أثر بشكل مباشر على حياة الملايين من الناس داخل المنطقة وخارجها.

  

كوارث صحية 

 

أبحاث علمية عدة أجريت حول مدى خطورة المأساة التي حلت بـ«بحر آرال» الذي كان يُصنف كرابع أكبر بحيرة عالمياً، فكشفت عن أن ما يقرب من 75 مليون طن من غبار الأملاح السامة تنطلق كل عام مع الرياح من القعر الجاف، وتنتشر باتجاه الغرب إلى مسافات غير محدودة، مشكّلة غيوماً من الغبار الملحي السام.

 

وفي السنوات الأخيرة سُجل ارتفاع واضح لنسبة الأملاح في مياه الأمطار أكثر من مرتين، في ضواحي العاصمة الأوزبيكية طشقند، وفي بيلاروسيا ولاتفيا على بحر البلطيق، أما المناطق المحيطة بـ«بحر آرال» فقد سُجل ارتفاع نسبة الأملاح في مياه أمطارها بسبع مرات.

 

 

كما عُثر على آثار أملاح بـ«آرال» في دماء طيور بطريق تعيش في المناطق القطبية، وفي جرينلاند وغابات النرويج، كما بدأت تظهر أعراض مرضية نتيجة انتشار هذه الأملاح، حيث سجل باحثون وأطباء زيادة أمراض الحمى المعوية في المناطق القريبة من البحر بـ30 مرة، ومرض التهاب الكبد الفيروسي بسبع مرات.

 

وزادت حالات الإصابة بالسرطان عن 15 مرة، وهو أعلى مؤشر تم تسجيله سابقاً في الحقبة السوفيتية، ويؤكد الخبراء أن ما يقرب من 5 ملايين إنسان يعانون مشاكل صحية بسبب جفاف بـ«بحر آرال».

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة