الخميس، 19 ديسمبر 2019 - 07:22 م

«تكلّم مع مَن تحب بلا سبب، أرسل رسالة لصديقك بلا سبب، اِبتع هدية لأمك بلا سبب، ولا تسألنى عن السبب، باغت الأشياء من حولك ودع الأسباب تأتى لاحقاً» ـ نجيب محفوظ.

قد تشكّل هذه الكلمات حلاً لمشكلة القلق المستمر وهاجس التوتر الدائم الذى يعانى منه الإنسان المُعاصر، خصوصاً أن أغلبنا يعيش أزمات خانقة على مختلف الأصعدة، ما يجعل الحياة تقع على حافة الموت، حافة الإفلاس، حافة الجوع، حافة اللاأمان.. وكل شيء يصبح ضيقاً ليقوم بإرباك حياتنا. لا أبالغ إن قلت أنّ القلق هو سرطان هذا العصر ولعنته، لكن المُثير حقاً أن لا أحد يخاف ويقلق من أجل شيء ما بعينه بقدر ما يخاف ويقلق لأجل سبب هو لا يعرفه. هكذا كتب «عبد الرحمن عرفة» فى مدونته، والنقل هنا بتصرف. ولا أعرف لمَ يهتم الجميع بالأسباب بشكل مُبالغ فيه وينسى كل ماعداها، رغم أن مشيئة القدر ماضية مهما حدث.

عبد الرحمن عرفة كما يعرف نفسه، طبيب أسنان ومُبرمج كمبيوتر قديم الطراز، مُهتم بالتاريخ لفهم الماضى، والعلوم من أجل اقتحام المستقبل بعيدًا عن عالم البشر، لأنه يحب عالم الأرقام. باغتتنى كلماته فوجدتنى أباغته بالكتابة عنه، ولم لا؟ هل لابد لعبد الرحمن، وآلاف الشباب النابهين غيره أن يكونوا فلاسفة وكتاباً غربيين حتى نهتم بكلماتهم ورؤاهم؟ الحقيقة أنا لا أرى سبباً يمنعنى الاهتمام بما يكتب، أو لعلى أترك الأسباب تأتى لاحقاً. لم يتركنا عبد الرحمن للتفكير فى مقولاته وراح يؤكدها بمناقشة فيلم «فورست جامب» للنجم الأمريكى «توم هانكس» والذى حاز شهرة عالمية واسعة،

فيقول: على الرغم من أن الفيلم يحمل العديد من المعانى المُهمة والمُلهمة فى الحياة، إلا أن أكثر شيء لفت نظرى فيه وتعلمته منه هو أن الأسباب غير مُهمة أبداً. فالبطل يعيش حياته وفقاً لهذا القانون البسيط، قانون العفوية فى كل شيء، يذهب للمدرسة وبعدها الجامعة ومن ثمّ يُشارك فى الحرب، ويكوّن الصداقات ويُصبح غنيّاً بدون أى سبب، فقط لأن الأشياء كانت تظهر فى طريقه ويرى نفسه مُنساقاً لها،
لدرجة أنه فى أحد الأيام يبدأ بالمشى ويستمر فيه بلا سبب، فيقضى ثلاثة أشهر وهو يمشى ويمشى ويهرول ليصبح بعدها من أفضل العدائين فى العالم. المثير للسخرية أنه أثناء مشيه ودورانه الطويل حول العالم اعترضه المئات من الصحفيين الذين كانوا يسألونه لماذا تمشى؟ هل من أجل السلام العالمى؟ أم من أجل مرضى الإيدز؟ هل تمشى تضامناً مع حقوق الحيوانات والجمادات والبشر؟ هو لم يكن يعرف شيئاً مما يقولون، فقط يمشى ويمشى.

البديع فى الأمر أن كل شيء كان يسير معه بتناسق، وكأن الحياة تقول له كن عفوياً وعلى طبيعتك وامشِ! ويراجع عبد الرحمن نفسه: أؤمن بأن الأسباب مُهمة والأخذ بها واجب، لكن لا أؤمن بدرجة الخوف والقلق التى يعيش البعض بسببها ورهبةً منها، أو انتظاراً لها لكى تكون دافعاً لفعل شيء أو تنفيذ أمر ما. قد يراك البعض تبتسم، فيسألونك لماذا تبتسم؟ هل أنت مجنون أو فاقد للعقل؟ ذلك أن كل شيء لديهم يجب أن يكون له سبب، ولهذا فالقلق دائماً ما يكون رفيقهم فى مختلف الأمور. تشترى هدية لصديقك وتقدمها له فيسألك، وما مناسبة هذه الهدية؟ ويالك من صديق، وهل يجب أن يكون للهدية سبب أيضاً؟.

الأسباب قد تكون حافزاً ودافعاً، وقد تكون لعنة حقيقية تلوكها ألسنة الجميع وتشعر بها فى قلوبهم. خُذ بالأسباب قدر المستطاع، لكن لا تجعلها قضيّة كل شيء، بعض الأمور لا تحتاج لأسباب، بعض الأمور عفويّة لا تحتاج كثيراً حتى تشعر بها أو تمر بظروفها، ولعل هذا هو قيمة الجمال فى اللحظة وسر الإحساس بروعة الحياة والطبيعة حولك.

هكذا جاءت رؤية طبيب الأسنان الذى لم أكن أعرفه، ولعلها فلسفته التى توافق فيها مع نجيب محفوظ، وكان قادراً حد المفاجأة والدهشة على استخراجها من بين سيل مؤلفاته والوعى بقيمتها وتمثل معانيها. فحتى لا تنزلق الحياة منك إلى حافة الخوف والإفلاس واللا أمان، لا تنتظر أكثر، باغت الأشياء من حولك، ودع الأسباب تأتى لاحقاً.