هاني شنودة.. من بيانو أمي إلى ساحة السيد البدوي
هاني شنودة.. من بيانو أمي إلى ساحة السيد البدوي


حكايات| العراب هاني شنودة.. من بيانو أمي إلى ساحة السيد البدوي

مصطفى حمدي

السبت، 21 ديسمبر 2019 - 11:39 ص

طنطا .. المدينة التي تبدو على الخريطة كقلب الدلتا النابض، وهي كذلك، لياليها المشحونة بأصوات المنشدين وحلقات الذكر، وأهلها من كل الأديان والأجناس يتعايشون في "كوزموبوليتان" بصبغة ريفية مدهشة، كانت طنطا مولدًا لكثير من المبدعين، إنها مدينة تعزف على مفاتيح الحياة فتضبط نغمة أهلها على موجة الإبداع في أي شيء.

 

تركت طنطا أثرًا كبيرًا في نفس وشخصية هاني شنودة ولكنه لم يقترب كثيرًا من هذه المساحة الشخصية في كل حواراته ولقاءاته، كنا قد اتفقنا على أن نبدأ أولى جلساتنا يوم 6 مارس 2019 ، قال لي : "حضر اللي تحضره من أسئلة ومحاور بس سيبني أحكي براحتي".

 

جلس وراء الأورج الفضي الضخم وكأنه يستعد لعزف مقطوعة جديدة، شردت للحظات وأنا أفسر لنفسي سبب جلسته هذه بينما جلست على كرسي مقابل له، لا أفضل وضعية المواجهة، وإن اكتشفت بالوقت وتكرار اللقاءات أنها الأكثر أريحية له ولي.

 

____________________________

من  "جارة الوادي" إلى "مُر بي" .. قصة عشق ألحان موسيقار الأجيال لصوت فيروز

____________________________

 

قلت : عندي تصور لمحاور الكلام .. بس تحب نبدأ منين ؟

 

أعاد نفس الجملة التي قالها في الهاتف : "سيبني أحكي براحتي .. وبعدها إسأل براحتك" .

 

بدأ هاني شنودة حديثه عن محمد منير وألبوم "أمانة يابحر" ، متطرقًا إلى تغير وسيط الموسيقى من الإسطوانة إلى شريط الكاسيت، في تلك اللحظة شعرت أن الأستاذ هاني يضع قواعد الحكاية بمفرده وأنني سأكتفى بدور المتلقي، حسنًا هذا أمر معتاد لدي تكنيك للتعامل معه بحكم سنوات العمل في الصحافة.

 

قاطعته متعمدًا مرة ، ثم مرتين ، في الثالثة انفعل قائلًا : " كده انت هتحول القعدة لحوار صحفي، مش مذكرات! "

 

إذن يا مايسترو .. مارأيك أن نبدأ الحكاية من النقطة الأنسب للمذكرات .. من طنطا .. عرفني على هاني شنودة الذي لم يقابل بعد صلاح جاهين وعبد الرحيم منصور ولم يكتشف محمد منير .. هل تتذكره ؟

 

استند بظهره على الكرسي ونظر إلى مروحة السقف التي كان صوت "زنتها" أشبه بموسيقى تصويرية لكل لقاءاتنا ، أتصور أنه كان يرى في لحظة التأمل هذه مشهدًا من فيلم "المولد" الذي ألف موسيقاه التصويرية ، ثم بدأ الحكي :

 

" أنا من مواليد طنطا ، 29 ابريل 1943 ، عائلتي من الطبقة المتوسطة ، ولكننا كنا ميسوري الحال ، والدي صيدلي ووالدتي ربة منزل ، ولكنها كانت تجيد العزف على العود والبيانو وتملك صوتًا جميلًا لم يغادر ذاكرتي إلى الأن ، اعتدنا أن تغني لأم كلثوم وهي تعزف على البيانو، لا أعرف في الحقيقة أين تعلمت كل هذا، ولا أذكر أنني سألتها".

" التحقت بمدرسة سعد زغلول الاعدادية ثم القاصد الثانوية ، المدرستان حكوميتان ، أيامنا كان الشاطر يلتحق بالمدارس الحكومية و "الخايب" من يلجأ أهله لإلحاقه بالمدارس الخاصة ، المهم أنني حتى المرحلة الثانوية لم أكن غاويًا للموسيقى ، شغفي الأكبر كان في الرسم ، ربما لأن أمي كانت تصف صوتي بالنشاز وتقول لي " ودنك بايظة " كلما حاولت الغناء مثلها !".

 

أظن أن الموالد في طنطا بعدد شعر الرأس ، فنقطة ارتكاز الدلتا يحج إليها أهل الطرق الصوفية والمريدين والدراويش والمنشدين والمداحين للإرتواء بنعيم القرب من مقام السيد البدوي وعلاج الروح ببركة مولده ، أو مولد "سيدي السيد" كما يسمية هاني شنودة وأهل طنطا .

 

في البيت غرفة بيانو وأم تعشق الفن ، وفي الشارع موالد وحلقات ذكر ومداحين ، وفي الكنيسة رعاة وكورال ، الموسيقى تحاصره ، فأين المفر ؟

 

يكمل هاني شنودة الحكاية : " مولد سيدي السيد ، مولد الشيخة صباح ، ومولد سيدي الرفاعي ، جعلت اذني تتذوق الإنشاد الديني والموشحات الصوفية، كنت مفتونا بهذا الفن ، وأداء المداحين ورقص الدراويش وهم يتمايلون في حلقات الذكر ، كنت اشتري المزامير والطُبل من الموالد وألعب عليها ، أذكر أننا كنا نجلس في المقاهي نستمع إلى المنشدين وهم يغيرون كلمات الأغاني العاطفية ويولفونها على أغاني شعبية ومقاطع ونصوص من الذكر في حب رسول الله وآل البيت ، كانت فكرة عبقرية تثير دهشتي، تلك القدرة على التلوين والتغيير والمزج بين فنين مختلفين تمامًا".

 

"في رمضان كنا نجتمع في ساحة مسجد السيد البدوي ننتظر الشيخ النقشبندي ليطل علينا ويتحفنا بما فتح الله عليه ، ظروف مثل هذه صعب أن تتكرر مع أحد .. كنت محظوظًا" .

 

يؤمن هاني شنودة بأنه محظوظ ، في إحدى جلساتنا استغرق نصف ساعة تقريبًا ليشرح لي أسباب اعتقاده أنه رجل محظوظ ، وفي هذا امتنان كبير للقدر، وزهد أكبر عن التباهي بالموهبة ، المهم أن انطلاقته الحقيقية مع الموسيقى جاءت من غرفة بيانو الوالدة .

 

هنا يحكي مبتسمًا : " كنت الصف الثاني الثانوي على ما أذكر عندما دخلت ذات غرفة البيانو في بيتنا ، ضغط على مفتاح فسمعت نغمة (الدو) ثم ضغطت على آخر فسمعت (الري) ثم (اللا) لم أدرك أنني ألعب السلسلة التوافقية للموسيقى ، أعجبني الموضوع ، احتليت غرفة البيانو ولم يقدر أحد من يومها على إخراجي منها ، في نفس الوقت كان لدي شلة تحب الموسيقى ، على رأسهم عاطف منتصر الذي أصبح فيما بعد صاحب شركة (صوت الحب) ومنتج ألبوماتي وألبومات كبار النجوم، أنا وعاطف ومعنا ساري دويدار وماهر صادق كنا ننطلق بسيارة عاطف الى طريق المعاهدة في ضواحي طنطا ، حيث كان الراديو يلتقط موجات الـ ( إف إم) في ليالي الصيف الرطبة ، كنا نستمع للموسيقى الغربية ونضحك ونتحدث عن أحلامنا في الموسيقى قبل أن نسلك طريقها الاحترافي ، أما في البيت فكانت شقيقتي الكبرى مغرمة ببرنامج إذاعي يدعى out your request أو (خارج ترشيحاتك) وهو برنامج متخصص في الموسيقى الأجنبية وكنت معجبًا بما أسمعه فيه ، كل هذا صب في مخزون الوعي الذي كان يتشكل يومًا بعد الآخر، فأصبحت الموسيقى كل حياتي "

 

بعد فترة كون هاني شنودة فرقة خاصة في مدرسته ضمت مجموعة من أبناء عائلة تدعى "الدفتار" ، تأثرت الفرقة بالعازفين "الجريك" كما يصفهم في البدايات حيث يقول : " في طنطا وربما في أغلب المدن المصرية كانت الفرق المكونة من العازفين اليونانيين تحتل كل النوادي وأماكن السهر ، عرفنا منهم الموسيقى الغربية ، بينما أنا كنت أراقبهم بدقة لأتعلم ما يفعلونه بالضبط ، وأول شيء لفت انتباهي أن في المقطوعات الغربية كل عازف له دور ويعزف شيئًا مختلفًا عن الآخر ولكن المنتج النهائي ممتع ، عكس التحت الشرقي الذي كان يعزف كاملًا شيئًا واحدًا ".

 

 

أنهى هاني شنودة دراسته الثانوية ، وحان موعد تحديد المصير ولأنه كما يقول شخص محظوظ أنعم الله عليه بأب متفهم ، أهداه الطريق دون تعنت أو اعتراض مثل أغلب العائلات التي كانت ترفض اتجاه ابنائها للفن في تلك الفترة .

 

" والدي كان رجلًا حكيمًا ، ولأنه صيدلي فقد كان مؤمنًا بالعلم في كل شيء ، بعد الثانوية  العامة قال لي " لو بتحب الموسيقى يبقى تدرسها ، لازم تدرس الشيء اللي هتشتغله ، وإلا مش هتنجح فيه ، وموهبتك لوحدها مش هتسعفك ، هتقطع جزء من الطريق بس مش هتعرف تكمل للآخر" .

 

 

" كان محقًا في رأيه ، كلما كنت أتعلم شيئًا جديدًا بالسمع والمشاهدة ، أجد أمامي عشرات الأسئلة وقت التنفيذ ، إجاباتها الصحيحة والشافية في الدراسة ، الموسيقى علم وقواعد قبل أي شيء ، وهذا العلم ساعدني فيما بعد مثلا على تفكيك الجملة الموسيقية وإعادة توزيعها ، وهو الذي ساعدني في تطبيق علوم الموسيقى الحديثة على موسيقانا العربية .. كانت نصيحة والدي هي الدليل الذي أرشدني الطريق ، طريق طويل ولكنه ممتع بدأته في المعهد العالي للتربية الموسيقية بالقاهرة ".

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة