د. محمد أبو الفضل بدران
د. محمد أبو الفضل بدران


يوميات الأخبار

الشيخ الطيب والشيخ المرصفى

بوابة أخبار اليوم

الأربعاء، 25 ديسمبر 2019 - 07:13 م

تبدو الأعوام مثل فيلم قصير أمام عينيك، ربما تتوقف أمام مشهد لا تنساه، وربما تمر مشاهد كثيرة لا تتذكرها.

بينما كنتُ فى ضيافة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب بساحتهم العامرة بالقُرنة بالأقصر، أجلسنى بجانبه على «الدّكّة» ورحنا نتحدث عن أحوال اللغة العربية وحاضرها، فابتسم وقال: لكَ عندى مفاجأة طيبة، وأمرَ بإحضار نسخة من كتاب «الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية» الذى عنى به الدكتور محمد عبدالرحمن شميلة الأهدل، وكتب له الدكتور أحمد الطيب مقدمة وافية، ونُشر فى طبعة خاصة للأزهر الشريف نشرته سقيفة الصفا العلمية فى طبعة أنيقة وأوراق مبهجة وخطوط تراثية فنية جميلة، يقع الكتاب فى أربعة أجزاء تربو صفحاتها على ألفى صفحة، وأهدانى نسخا لمكتبة الجامعة، استأذنت منه ومن الشيخ محمد الطيب ورحتُ أقرأ هذا الكتاب الذى قال عنه مصطفى صادق الرافعى «الكتاب الأول الذى راضَ خيال شوقى وصقل طبعه، وصحّح نشأته الأدبية.. هو بعينه الذى كانت منه بصيرة حافظ» ولذا قال الأمير شكيب أرسلان عن هذا الكتاب «الوسيلة الأدبية أنشأت أكثر من شوقى وحافظ، وبعثت الشعر من مرقده، وأحيَتْ للأدب دولةً جديدة».
وفى حديث أحمد شوقى عن المرصفى قال «إن أستاذى الوحيد الذى أعدّ نفسى مدينا له هو الشيخ حسين المرصفى» لكن الأجمل هو «طليعة الكتاب» التى خطها الإمام الأكبر د.أحمد الطيب وأراها جزءا من سيرته الشخصية أبانت لى جوانب خفية فى سيرته الناصعة التى آمل أن يجد وقتا لتدوينها وكتابتها ونشرها.
الطيب وطه حسين
فى تقديمه للكتاب حكى الدكتور أحمد الطيب عن سنوات دراسته «كانت مؤلفات عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين من أحبّ الكتب إلى قلبى وكنت أجدُ فى قراءتها متعة للذوق والشعور وتأثيرا ملموسا فى ترقية أفكارنا، وانفتاح وعْينا على تجارب الحياة بكل ما تضطرب به من آمال وآلام... ومع أن كتاباته كانت تجنح - فى بعض المواطن- إلى شيء من النقد الساخر لمناهج تدريس الأدب فى الأزهر الشريف مرة، وفى دار العلوم مرة أخرى، ومدرسة القضاء الشرعى مرة ثالثة، إلا أن هذه الكتابات لم تكن لتُثير فى نفوسنا ـ نحن أبناء الأزهر - شيئا من الحفيظة يُعكّر عليَّ الشَّغف بهذا الأسلوب الرشيق الذى كنا نحار فى وصفه، هل هو شعر منثور، أو نثر منظوم، أو هو فنُّ مبتكر من فنون القول، لا هو هذا ولا هو ذاك، وكان كتابه «فى الأدب الجاهلى» فى مقدمة ما حرصتُ على قراءته، لما ثار حول أصله المسمّى «الشعر الجاهلى من ضجة فكريّة، مُزجت من جدل دينى، وآخر أدبى فى قصة قديمة معروفة» وهذا الجانب الفكرى بين فضيلة الإمام وطه حسين يبدو لى لأول مرة، وكيف كان إعجابه بطه حسين إعجابا كبيرا وأنه لم يكن كمعظم الأزهريين الذين ناصبوا عميد الأدب العربى العداء، وكيف فتح له طه حسين قراءة الأدب العربى من زوايا مختلفة وأرشده إلى قراءة شرح كتاب «رغبة الآمل من كتاب الكامل».
سيرة الشيخ المرصفى:
نشأ فى قرية «مرصفا» ونُسب إليها وهى إحدى قرى بَنْها وكان أبوه عالما وقد وُلد فى عام 1815 تقريبا وتُوفى 1890 وتعلّم فى الأزهر الشريف وصار عالما من علمائه وقد ألّف الوسيلة الأدبية وكتاب زهرة الرسائل؛ ودليل المسترشد فى فن الإنشاء؛ ورسالة الكلم الثمان.
كتاب الوسيلة الأدبية:
لم ينل هذا الكتاب شهرة واسعة ولم يُطبع منه بعد طبعته الأولى التى اختفت سوى الجزء الأول والثانى بتحقيق الدكتور عبدالعزيز الدسوقى إلى أن طلب الدكتور أحمد الطيب من الأستاذ عمر سالم باجخيف صاحب دار المناهج بجدة إعادة نشره بعد أن أضحى الكتاب مفقودا فى أسواق الكتب فخرجت هذه الطبعة المتألقة التى أملاها الشيخ حسين المرصفى الأزهرى الكفيف على طلابه.
جمع الشيخ حسين المرصفى فى كتابه هذا علوم العربية فى أسلوب بديع لا غموض فيه ولا تعقيد، وفى ألفاظ فصيحة وجُمل بليغة بحيث يعد هذا الكتاب موسوعة أدبية عربية شاملة فى علوم البلاغة والنحو والعروض والقوافى والفنون والتربية والتدوين والصوتيات والتاريخ.
لذا أراه كتابا مفيدا نادرا متفردا أحْرى بأقسام اللغة العربية وغيرها أن يقرّروه فى مناهجهم الدراسية «وبالله التوفيق لأقوم طريق» كما كان المرصفى يختم كتابه هذا بتلك الجملة الجميلة وأقترح إصدار كتب المرصفى الأخرى ونشرها.
محمود فهمى حجازى وداعًا
«ما دار فى خلدى أنى سأرثيهِ» فكم كان من أنبل أساتذة الجامعات المصرية وعندما سافرت إلى ألمانيا حدثنى أستاذى المستشرق الألمانى إشتيفان فيلد العميد بجامعة بون إنه زامل أستاذيْن مصرييْن فى جامعة ميونيخ وهما الدكتور محمود فهمى حجازى والدكتور عبده الراجحى وأنهما من أفضل من فهم العلوم الألمانية والعربية وكنت ألتقى الدكتور حجازى فى ألمانيا وفى القاهرة، وما فعله فى جامعة نور مبارك بكازاخستان ودوره فى ترجمة كتاب كارل بروكلمان «تاريخ الأدب العربى» لا يُنسى.. كان من أعلم الناس بالعربية فى تواضع لا يُحد، وفى اجتماع مجلس كلية الآداب ودار العلوم بجامعة القاهرة حيث كنت عضوا من الخارج عندما اجتمعوا بدعوة من الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة الأسبق جلستُ بجانبه وتحدث فى الاجتماع عنى حديثا مطولا؛ كم سنفتقدك أيها العالم النبيل.
العربية فى مدرسة النيل بقنا
جميل أن نحتفى باللغة العربية وأن نطمئن على نطق شبابنا بها، ولذا لم أتردد لحظة فى أن ألبى دعوة د.محمود يوسف لأشاركهم فى مدرسة النيل بقنا احتفالهم بالعربية، كانت اللافتات تغطى جدران المدرسة «العربية هويتى»، وكان مدير المدرسة د.أبو بكر على سيد والأستاذ أيمن الطيب فى انتظارى لأشارك الشعراء سيد خضير وعماد إبراهيم النابى ود.سعيد الصادق وعبد الرحيم قرشى والمستشار محمد القاضى والكاتب محمود قبانى، كان منظر التلاميذ مبهجا وعندما سألتُهم فى اللغة والنحو كانت إجاباتهم مدهشة، إنهم يتحدثون الفصحى بفصاحة وبلاغة، فيهم رأيت المتنبى وأبا العلاء المعرى وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم، فرحتُ برؤية زملائى وطلابى الذين صاروا معلمين بهذه المدرسة الرائدة فتحى على وهند وصفاء مرغنى وأيمن الطيب وحسين سعد الدين وحمد على وعبد الرحمن على عبد الراضى وأحلام كان الشعر جوهرة الحفل، ومن أجمل ما شاهدته وفاء طلابى فى هذا الصرح العلمى الجميل كان د.مختار الحسينى عريف الحفل يتحدث بطلاقة وبحب وكأنه البحترى، وكان ابنى عمر فرحا به وبمدرسته وبأساتذته لقد بتّ أكثر تفاؤلا بالأجيال القادمة.
فى وداع عام
تبدو الأعوام مثل فيلم قصير أمام عينيك، ربما تتوقف أمام مشهد لا تنساه، وربما تمر مشاهد كثيرة لا تتذكرها أوْ لا تود أن تتذكرها، ربما ما كان يبكيك بالأمس يضحكك اليوم، وما أضحككَ قديما يبكيك الآن، ربما تتغير المشاعر تجاه أشخاص أحببناهم واكتشفنا أنهم لم يكونوا أهلا لهذا الحب، ومن ابتعدنا عنهم فوجئنا أنهم أكثر إخلاصا ومودة، ربما فُجعنا فى أناس حسبناهم أصدقاء فاكتشفنا خلاف ذلك، وهؤلاء الذين وهبناهم أسرارنا فرأينا أنهم ليسوا لها أهلا، فى السنوات الأخيرة ولاسيما بعد 2011 رأينا ما لا يُرى؟ كيف ينقلب الصديق وهو أعلم بالمضرة! وكيف استأسدت الضفادع ونسيت أصولها وجلودها.. كيف باع بعض الناس صداقات حسبناها قوية، وكيف ظهر لنا أصدقاء ما عددناهم منهم من قبل.. فى فيلم السنين تجد لطف الله وقدرته، تجد أن ما حسبته خيرا وتمنيته سيتضح لك بعد ذلك أنه لم يكن كذلك.
قد ينعم الناس بالبلوى وإن عظمتْ
ويبتلى الله بعض الناس بالنّعم
ستجد أن عقلك الذى تراه كبيرا خذلك، وأن لطف الله أنقذك، أن مواقف كثيرة كنت فيها غاضبا وحزينا لم تكن تستحق كل هذا الحزن وكل هذا الغضب، أنك أفنيت وقتك كما قال ابن الفارض:
إنْ كانَ منزلتى فى الحب عندكمُ
ما قد رأيتُ فقد ضيّعتُ أيامى
أمنيةٌ ظفرتْ روحى بها زمناً
واليومَ أحسبُها أضغاثَ أحلامِ
فى النهايات تتجلى البدايات
قال الشاعر أبو الشيص الخزاعى:
وقفَ الهوى بى حيث أنت فليس لى
متأخرٌ عنهُ ولا متقدمُ
أجد المَلامةَ فى هواك لذيذة
حبًّا لذكرك فلْيَلُمنْى اللّوّمُ

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة