داود الفرحان
داود الفرحان


يوميات الأخبار

مسا التماسى.. يا قاعدين على الكراسى

بوابة أخبار اليوم

الأربعاء، 01 يناير 2020 - 07:00 م

ولاحظت أن أصدقائى لا يدخلون منزلى إلا ويختارون الجلوس على نفس المقاعد التى كانوا يجلسون عليها فى كل زيارة.

هل صحيح أننا نعيش فى عصر «الكراسى»؟ السؤال ليس من «عندياتى» فهو للكاتب البريطانى فيبار كريجن الذى يرى أن مؤرخى المستقبل سيتوصلون عندما يدرسون المرحلة الحالية فى تاريخ الشعوب إلى أن التقنية المميزة لعصرنا ليست أجهزة الكومبيوتر والإتصالات الخارقة، لكنها «الكراسى»!
وهو يستشهد فى هذه القناعة بملحمة الشاعر الإغريقى الأسطورى الأعمى هوميروس صاحب ملحمتى «الإلياذة» و»الأوديسا» فى القرن السابع قبل الميلاد لأنه كتب ثلاثين ألف بيت شعر لا يوجد فيها أى ذكر للكراسى! وأنا أرى أن هذا الإستشهاد يدعو إلى الضحك لأن المعلقات الجاهلية السبع لأشهر شعراء العرب لم يرد فيها ذكر للشوربة، فهل كانوا لا يتناولون الشوربة؟! الصحيح أنه ليس بالشوربة وحدها يجلس الناس على الكراسى.
جائزة نوبل للكراسى
فى منتصف القرن التاسع عشر ظهرت إلى الوجود رواية «المنزل الكئيب» لتشارلز ديكنز، صاحب رواية «قصة مدينتين»، وفيها 187 إشارة إلى الكراسى. ولو كانت جائزة نوبل للآداب معروفة فى ذلك الزمن لتم منحها لديكنز عن كثرة الكراسى فى روايته، كما منحوا جائزة نوبل بجدارة لكاتبنا الأكبر نجيب محفوظ عن كثرة الحارات القديمة والمشربيات التراثية والمقاهى الشعبية وكراسى الأرابيسك فى رواياته!
كنا نرى فى كل أفلام الأسود والأبيض العربية التاريخية القديمة الحاكم أو الخليفة أو الأمير يجلس على كرسى فخم يستمع إلى الشعراء وأحكام القضاء وشكاوى الناس، ثم يقول للحاجب: إعطه ألف درهم! وفى أفلام العصر الرومانى كان نيرون يجلس على كرسى وثير وحوله الأمراء والمستشارون والقادة العسكريون يجلسون على المدارج الحجرية بلا كراسٍ حديدية أو خشبية وهم يلوحون للسجناء ببدء نزالات «يا قاتل يا مقتول». لم تكن الكراسى شائعة إلا أنها كانت تشكل سبباً كافياً للمؤامرات مثلما يحدث اليوم فى كثير من دول العالم.
كرسى الكلبة «لايكا»
فى أول يوم من تسلمى أول وظيفة حكومية فى أواخر العهد الملكى العراقى عام 1958 جلست على الكرسى الخشبى المخصص لجنابى وكأننى «الكلبة لايكا» التى أطلقها الاتحاد السوفيتى فى عام 1957 لتقود ثانى قمر اصطناعى فى التاريخ إلى الفضاء فى رحلة بلا عودة! والكلبة لايكا صارت أيقونة فضائية بعد أن كانت إحدى ثلاث كلاب ضالة تم جلبها من الشارع، لأن كلاب الشوارع أكثر قدرة على التحمل فى الظروف الصعبة، وليس لأنها من «الكتلة الكلبية الأكبر» فى البرلمان العراقى الحالى. وكانت المشكلة التى واجهت العلماء هى الكرسى الذى ستجلس عليه الكلبة فى القفص داخل كابينة الصاروخ الفضائى، ثم استقروا على نوع ضيق من الأقفاص. وهكذا وجدت نفسى مثلها أجلس على كرسى خشبى أصغر من الكراسى المعدنية لبقية الموظفين فى الغرفة المشتركة، أضع ختم «أمانة العاصمة» على بطاقات دور السينما فى العراق. وأحسست فى ذلك اليوم، وعلى ذلك الكرسى القزم، بأهميتى «التاريخية» فى مدونة السينما فى العراق، لأننى كنت مسئولاً عن عدم تسريب أى تذاكر غير مختومة لأحافظ على سمعة أرض الرافدين أمام نجوم هوليوود الكبار من كلارك جيبل إلى كارى كوبر إلى شارلى شابلن إلى مارلين مونرو، وكذلك أمام نجوم السينما المصرية من يوسف وهبى وقبيلته إلى أمينة رزق وعشيرتها.
وبعيداً عن كراسى السينما، لم يعرف تاريخ الكراسى فخامة وأرستقراطية مثلما حدث فى عصرى لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر، وكانت تُصنع من خشب الورد والصنوبر والكستناء بمنتهى الحرفية والتزويق بحيث صار الكرسى الواحد مقصورة تحفية شأنها شأن الأعمال الفنية الكبرى فى الحضارتين اليونانية والرومانية. ونقل القياصرة الروس هذا التقليد وتفننوا فيه.
حين جاءنا الاستعماران الإنجليزى والفرنسى حمل إلينا «فلسفة» النجارين فى لندن وباريس، الأكثر رشاقة وأناقة، التى كنا نراها فى أفلام السينما الإنجليزية وفى القصور الملكية واللوردية والكنائس والمتاحف. وفى الشرق الأقصى ازدهرت الكراسى الصينية واليابانية والهندية إلا أنها لم تصل إلى ديارنا العربية إلا مع بعض الدبلوماسيين، غير أننا رأيناها فى أفلام سينما تلك الدول، ولم تبهرنا كما فعلت كراسى الإمبراطور الفرنسى أو البابا الفاتيكانى. فى المقابل لم تترك لنا الحضارات الفرعونية والسومرية والأكدية والبابلية والآشورية آثاراً لكراسى تلك الحقب التاريخية المزدهرة. وما رأيناه فى أفلام السينما العربية والأجنبية من «موبيليا» ملفق عن تلك القرون هو محض خيال نجار خشب ذاق الأمرّين من نكد زوجته وحماته.
سيكولوجية الكراسى العربية
على أى حال، كلما جاءت سيرة الكرسى والكراسى فى الحالة العربية جاءت سيرة الصراعات السياسية، وننسى أن هناك كراسٍى رفيعة المستوى مثل كرسى الأستاذية فى الجامعات والمجامع العلمية واللغوية والبحثية التى تهدف إلى إثراء المعرفة الإنسانية.
ومادمنا فى الحالة العربية فأنا لا أعرف أحداً إلا وكان له كرسيه أو مقعده المفضل فى صالة المنزل أو حول مائدة الطعام. بل أنا شخصياً، وأعوذ بالله من كلمة أنا، وأظن أن كثيرين يشاركوننى هذا الرأى، لا أستمتع ببرامج التليفزيون إذا غيرتُ مكان جلوسى، ولا أستطيب الطعام إذا احتل مقعدى حول السفرة شخص آخر. ولاحظت أن أصدقائى لا يدخلون منزلى إلا ويختارون الجلوس على نفس المقاعد التى كانوا يجلسون عليها فى كل زيارة.
 قل لى أين تجلس                                                                                   
إنها مسألة نفسية أكثر منها مسألة اعتياد. فالشخص يألف المكان الذى جلس فيه سابقاً ويشعر بما يشبه الغربة فى أى مكان جديد. ولذلك فإن معظمنا لا ينام بعمق إذا ما تغير سريره أو كان فى حالة سفر حتى لو بات ليلته فى فندق خمس نجوم أو»تمدد» على سرير يسع جملاً بما حمل! ودخل علماء النفس على الموضوع، كالعادة، تحت شعار «قل لى أين تجلس أقل لك من أنت». وهو شعار يقع ضمن سلسلة «قل لى من هم أصدقاؤك أقل لك من أنت» و»قل لى ماذا تأكل أقل لك من أنت» و»قل لى ماذا تقرأ أقل لك من أنت» و»قل لى من انتخبت أقل لك كم سيسرق»! فإذا كنت تفضل البقاء فى غرفتك والجلوس على مقعدك المفضل فهذا يعنى أنك تحاول البحث عن ذاتك دون تدخل الآخرين، ثم أنك لا تحب الاختلاط كثيراً ولديك حساسية كبيرة من احتمال جرح مشاعر الغير أو الإساءة إليك. ونصيحتى لك أن تملأ الغرفة بالمرايا لترى نفسك أينما وليت وجهك فيتكون لديك إحساس بأنك تعيش وسط أناس كثيرين!
أما إذا كنت تحب الجلوس بجوار النافذة فهذا يدل على شخصيتك الرومانسية التى تحب النظر إلى السماء والقمر والنجوم عسى أن تهبط ثروة مليونية على أم رأسك.
غير أن المطبخ هو المكان الذى لا يخرج منه الزوج بعد أن يغلق باب الثلاجة إلا ليعود إليه بعد دقائق ليفتح باب الثلاجة! ويصف خبراء علم النفس الأشخاص الذين يقضون وقتاً طويلاً على كراسى المطبخ بأنهم عمليون ويحبون أن يقوموا بكل الاعمال بأنفسهم من إعداد السَلطة إلى إصلاح الكرسى المكسور. وهذا النوع من الأشخاص يشعر أن المطبخ يحتاج إلى مساحة إضافية لوضع سرير ينام عليه فى وقت القيلولة!
لكن هناك أشخاصاً يعتبرون المكتبة المنزلية هى المكان الذى يمتلئ بالحيوية والمعرفة والاستقلالية ويغرى بالجلوس على أحد كراسيه. وهم يتميزون فى العادة بأنهم يعرفون أهدافهم جيداً ويحاولون الوصول إليها على أكتاف غيرهم إذا لم تنفعهم أكتافهم، خاصة إذا كانت كتب المكتبة من نوع «دع القلق وإبدأ الحياة» و»أصول فن الكاراتيه» و»الزواج السعيد» و»أبراج الحظ» و»ألف نكتة ونكتة».
«الكنبة» طريق الخلود
وإذا كنت تفضل الراحة أو الاستلقاء كثيراً على «الكنبة» المقعرة فى وسطها من كثرة الجلوس فأبشر يا أخا العرب لأن علماء النفس يقولون إنك يمكن أن تكون من المفكرين الخالدين. ولكن ينقصك التفكير العلمى بالقدر الكافى، وأنت فى الغالب غير راضٍ عن الظروف المحيطة بك وتحاول أن تعيش فى عالم خيالى من بطولة شهريار. ومن الشخصيات التى كانت تحب الاستلقاء على الأريكة إمبراطور الحبشة هيلا سيلاسى وجيمس بوند وجارنا الذى كلما وقعت عيناى على حديقته وجدته مستلقياً عليها وبيده مَنَشة الذباب! أما الذين يطيب لهم الجلوس بجوار أجهزة التسجيل والاستماع إلى الموسيقى فإن علماء النفس يصفونهم بالكرم والمشاعر المرهفة، وأغلب الظن أن هؤلاء العلماء يتحدثون عن موسيقى بتهوفن وليس عن موسيقى «دى دى» للشاب خالد. العجيب أنه بعد أن كنت أعتقد أنه لا توجد أغنية عربية واحدة فيها كلمة كرسى اكتشفت أن المطربة السورية أصالة لها أغنية يتيمة غير مشهورة عن الكرسى يقول مطلعها: «آه لو هالكرسى بيحكى... كان بيصرخ كان بيشكى/ وبيتلوع وبيتأفف... ويمكن حتى ينوح ويبكى».
ورحم الله فنان مصر الكبير الراحل صلاح جاهين الذى نقلتُ عنه عنوان هذه اليوميات مما أبدعه فى أوبريت «الليلة الكبيرة» عن التماسى والكراسى.
كاتب عراقى مقيم بالقاهرة

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة