محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار

العميد العنيد

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 05 يناير 2020 - 08:23 م

محمد السيد عيد

عرضت الجامعة الأمريكية على طه حسين أن يقوم بالتدريس فيها لكنه رفض، وأصر على التدريس فى الجامعة المصرية.

يوافق هذا العام ذكرى مرور مائة وثلاثين عاماً على ميلاد طه حسين، عميد الأدب العربى الذى بات مجهولاً لدى الأجيال الجديدة. قال لى صديقى الإعلامى الكبير إنه كان عضواً فى لجنة اختبار المخرجين الجدد، وسأل شاباً من المتقدمين للوظيفة: من صاحب رواية الأيام؟ لكن الشاب جحظت عيناه ولم يجب. قال له: ألا تعرف عميد الأدب العربي؟ قال: بل أعرفه. سأله: ما اسمه؟ قال بدون تردد: حسام حسن. اندهش الإعلامى الكبير، سأله غير مصدق: حسام حسن لاعب الكرة؟ قال: هل يوجد عميد غيره؟ ضرب الإعلامى الكبير بيديه على رأسه. صمت الشاب لحظة ثم قال مستدركاً: هل هو أحمد حسن؟
إلى هذا الحد نسينا الرجل الذى أثر فى حياتنا العقلية، وصار كل تركيزنا على الكرة ونجوم الكرة. ولذلك أستأذنك عزيزى القارئ أن أخصص هذه اليوميات للحديث عن الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي.
مواجهة صدقى
فى يناير 1932 توقفت السيارة التى تقل طه حسين، عميد كلية الآداب، أمام مبنى وزارة المعارف. أسرع السائق ففتح الباب للعميد، وتقدم السكرتير ليمسك بيد العميد ويقوده إلى داخل الوزارة. بعد لحظات كان الوزير مراد سيد أحمد باشا يرحب بالعميد الجديد الذى انتخبه زملاؤه بالأمس فقط ويقدم له التهنئة بالنجاح. بعد كلمات التهنئة والمجاملة، قال الوزير لطه حسين إن إسماعيل صدقى رئيس حزب الشعب الحاكم، ورئيس الوزراء، يريده أن يكون رئيس تحرير الجريدة التى قرر الحزب إصدارها. قال طه حسين بهدوء إن صدقى باشا أرسل له الرسالة نفسها بالأمس مع توفيق دوس باشا وزير المواصلات وعبد الحميد بدوى باشا، وإنه أجاب بالرفض. قال وزير المعارف إذا لم تقبل رئاسة التحرير فلتكتب إذن المقال الافتتاحي. ورفض طه حسين الطلب أيضاً. قال إنه لم يمض على انتخابه عميداً لكلية الآداب غير يوم واحد، وهو أول عميد مصرى للكلية، ولا يريد أن يترك دراساته ولا زملاءه الذين انتخبوه، ولا تلاميذه، ولا كليته.
ابتسم مراد باشا. قال له بدبلوماسية إن صدقى باشا لا يريده أن يترك دراساته، ويمكنه الجمع بين رئاسة التحرير والعمادة، ووعده بأن تكون له حرية كاملة فى رئاسة تحرير الصحيفة. وصمت الوزير قليلاً ثم قال بلهجة يظنها ستجعل طه حسين يلين: إن صدقى باشا يعد بأن تكون طلبات طه حسين المادية وغير المادية مستجابة.
ورفض طه حسين عرض رئيس الوزراء للمرة الثانية.
واصل مراد باشا حديثه. قال إن رئيس الوزراء يعرض عليه، فى هذه الحالة أن يكتب افتتاحية الصحيفة فقط. واقترح عليه موضوع المقال الافتتاحى فى العدد الأول من الصحيفة، وهو»ضرورة وجود حزب الشعب لتحقيق مصالح الأمة». ورفض طه حسين العرض البديل. وهنا قدم الوزير العرض الثالث: أن يكتب العميد المقال الافتتاحى دون توقيع. وهنا كان لابد لطه حسين أن يوضح وجهة نظره. قال:
«المسألة يا باشا أننى لا أعرف إن كان وجود حزب الشعب ضرورياً لتحقيق المصالح المصرية الصحيحة أم لا، ولكنى أعرف أن المصالح الصحيحة أن أنصرف إلى عملى فى كلية الآداب، التى لم يمض على تعيينى عميداً لها غير يوم واحد. إن كتابتى فى جريدة الشعب تضرنا جميعاً ولا تنفع أحداً. فليس من مصلحة الحكومة أن يعرف الناس أن الموظفين يكتبون فى صحفها، ولا ينبغى لعميد كلية من الكليات أن يسخر نفسه للكتابة فى صحف الحكومة فيتعرض لازدراء الزملاء والطلاب جميعاً».
كان الرفض معناه أن طه حسين يتحدى صدقى باشا، وصدقى لا يقبل أن يتحداه أحد. وقرر صدقى أن يعالج الموضوع بطريقته، فاستبعد الوزير الذى فشل فى إقناع العميد التابع له من الوزارة. ثم رفض توقيع قرار العمادة لطه حسين. وجاء بعد مراد سيد أحمد باشا وزير جديد للمعارف هو حلمى عيسى باشا، وهو وزير من نوع مختلف، لتحدث فى وزارته الأزمة الحقيقية.
لا يا جلالة الملك
وصل طه حسين إلى قاعة الاجتماعات بالجامعة قبل موعد الاجتماع بدقائق كعادته، فهو حريص كل الحرص على مواعيده. ألقى التحية على الحاضرين. ردوا جميعاً. وبعد لحظات دخل عليهم أحمد لطفى السيد مدير الجامعة ليرأس الجلسة. لاحظ طه حسين أن صوت مدير الجامعة متغير، خمن أن الرجل مهموم لكنه لم يعرف السبب. بعد قليل قال مدير الجامعة إن السيد وزير المعارف أرسل له رسالة جاء فيها: إن جلالة الملك فؤاد يريد منح درجات الدكتوراه الفخرية لثلاثة رجال بمناسبة الزيارة الملكية للجامعة. سأل الدكتور طه: من هم هؤلاء الرجال؟ أجابه الأستاذ لطفى السيد: هم: دولة يحيى باشا إبراهيم رئيس مجلس الشيوخ، وتوفيق رفعت باشا، رئيس مجلس النواب، وعلى ماهر باشا، الوزير بالوزارة الحالية.
كان الرجال الثلاثة ينتمون لحزب الشعب الذى يحكم فى هذا الوقت، ورئيس هذا الحزب هو إسماعيل صدقي، أسوأ ديكتاتور شهدته مصر فى عصرها الحديث. أى أن الملك كان يريد مجاملة الحزب الحاكم الذى يعلم هو قبل غيره أنه حزب أقلية. دارت فى رأس طه حسين خواطر سريعة كأنها البرق. تذكر فضل الملك فؤاد على الجامعة، فقد كان رئيساً للجنة التى أنشأتها، وحين وجد أن الجامعة الأهلية تعانى من قلة الموارد المالية قرر أن تضمها الحكومة، أما بخصوص طه حسين فقد وضع الملك بنداً خاصا به فى قرارات انتقال الجامعة من جامعة أهلية إلى جامعة حكومية لكى يمنع المساس به. ماذا يفعل طه حسين؟ هل يجامل الملك رغم أنه لا يوافق على تدخل السياسة فى إدارة الجامعة، أم يقول لا لصاحب الجلالة؟ وقرر طه حسين أن يقول الحق ولو كان مراً.
كان اثنان من الثلاثة الذين رشحهم الملك أعضاء فى مجلس الجامعة، ومشاركين فى الجلسة، وكانت اللائحة تقضى بخروج العضو الذى يناقش المجلس موضوعاً يخصه، منعاً للحساسيات أو المجاملات. لكن طه حسين كانت لديه الشجاعة لكى يعلن رأيه بحضور العضوين. قال إنه لا يرضى للجامعة أن تمنح ألقابها بأمر الوزير، وأنه لا يصح لمجلسها أن يمنح الشهادات الشرفية لأعضائه، وأضاف أن مرسوم إنشاء الجامعة ينص على أن مجلس الجامعة يمنح درجات الشرف بناء على قرارات من مجالس الكليات، وهذا لم يحدث. ورجا الوزير أن يعدل عن رأيه، وألا يورط الجامعة فى السياسة، فهى جامعة ناشئة، ومن حقها أن تكون لمصر كلها، وللعلم وحده.
جن جنون صدقى باشا، وقرر أن يعاقب الجامعة، فمنع صدور لائحتها الجديدة، وهى لائحة فيها ضمانات لأساتذة الجامعة تشبه الضمانات الخاصة بالقضاة. كما قرر أن ينكل بطه حسين المتعجرف، الذى لا يهمه وزيراً ولا رئيس وزراء ولا ملكاً، فأوعز للوزير حلمى عيسى أن يصدر قراراً بنقل طه حسين من الجامعة إلى وزارة المعارف فى وظيفة بالتعليم الأولي.
ثارت الجامعة كلها، وتصاعد غضب الطلبة واحتجاجاتهم لحد أن الحكومة اضطرت لإغلاق الجامعة. لكن صدقى وحلمى عيسي، مخلب القط، لم يتراجعا، وقرر الوزير أن يساوم طه حسين. فأوعز أولاً إلى أحد نواب الحزب الوطنى المحافظين، وهو الأستاذ عبد الحميد سعيد، أن يقدم استجواباً بشأن تهاون الوزير مع طه حسين. وتحدد يوم 7 مارس 1932 للاستجواب. لكن قبل هذا الموعد استدعى الوزير طه حسين وعرض عليه عرضاً فى غاية السخاء، كى يخرج هو وحكومته من الأزمة. عرض عليه أن يعلن قبوله للنقل مقابل:
1- يكون له الحق فى اختيار أى وظيفة يختارها فى وزارة المعارف.
2- يلتزم الوزير بألا يعين أحداً فى عمادة كلية الآداب، ليعاد تعيين طه حسين فيها مرة أخرى بعد فترة من الزمن.
3- أن يتم تعويضه عن بدل العمادة.
4- أن تطبع وزارة المعارف له ما يشاء من الكتب.
5- أن يوقع الوزير لائحة الجامعات التى تحتوى على ضمانات للأساتذة تشبه ضمانات القضاء.
6- أن يقف الوزير فيرد على الاستجواب مدافعاً عن طه حسين
ورفض طه حسين كل هذا، لأن موافقته معناها أنه يوافق على حق الوزير فى نقل الأساتذة، وهذه ستكون سابقة خطيرة فى تاريخ الجامعة، وتهدد استقلالها.
لم تنته الأزمة بقرار نقل طه حسين بل بدأت، فقد تقدم رئيس الجامعة أحمد لطفى السيد باستقالته احتجاجاً على ما حدث لطه حسين. لكن صدقى واصل هجومه، وفصل طه حسين من الحكومة فى 30 مارس 1932. ليصبح الرجل دون مصدر دخل. ولم يتوقف انتقام صدقى وحلمى عيسى فقد أبلغا الشركة التى يؤجر منها طه حسين مسكنه بأنه لم يعد موظفاً فى الجامعة لكى تخرجه منه، وفعلاً أخرجته الشركة من مسكنه.
عرضت الجامعة الأمريكية على طه حسين أن يقوم بالتدريس فيها لكنه رفض، وأصر على التدريس فى الجامعة المصرية، ودعته الجامعة الأمريكية لإلقاء محاضرة فيها، فلبى الدعوة، وهناك هتف له الطلاب: عاش عميد الأدب العربي، وصار هذا اللقب علماً عليه منذ هذا الوقت.
تغيرت وزارة صدقي، وجاءت وزارة جديدة برئاسة توفيق نسيم فى نوفمبر 1934، وعلى الفور قامت الوزار الجديدة بإعادة طه حسين إلى عمله. وبعد عدة أشهر أعادت لطفى السيد لرئاسة الجامعة، وعاد كل شيء لما كان عليه، وخسر صدقى وحلمى عيسى سمعتهما أمام التاريخ.
فى مواجهة الجماعات الدينية
فى عام 1939 خاض طه حسين معركة أخرى لا تقل ضراوة عن المعارك السابقة، فقد كان ضمن مقررات قسم اللغة الإنجليزية مسرحية جان دارك لبرناردشو، وكتاب محادثات خيالية لأندرو، وأثار بعض خصوم طه حسين زوبعة ضده، مؤكدين أن هذين الكتابين يتضمنان كفراً صريحاً وهجوماً على الإسلام. وتلقفت الجماعات الدينية الخيط فهاجموا كلية الآداب، ووقفوا أمام مكتبه يصيحون: اخرج يا أعمي، اخرج يا كافر. واتصل مكتب العميد بالشرطة فاعتذرت الشرطة متعللة بكثرة مشاغلها، وخرج طه حسين ليواجه الطلاب المتشددين بشجاعته المعهودة، وناقشهم، فوجد أنهم لم يقرأوا الكتابين، وبعدها تقدم باستقالته للوزارة. لكن الوزير، محمد حسين هيكل رفض الاستقالة لأنه يعرف كفاءة طه حسين وإخلاصه.
هذه لمحات من سيرة طه حسين الذى لم يعد أبناء جيلنا يعرفونه جيداً. ويخلطون بينه وبين عميد لاعبى كرة القدم حسام حسن.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة