د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

العمل حسب الظروف

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 09 يناير 2020 - 05:10 م

 

إذا علمنا ذلك كان علينا أن نفهم فقه العمل، وأن مكانه كالحرم، وأن ساعاته مقدسة، وأن اللعب فيه معصية.

يوميات نائب فى الأرياف
السبت:
 من فيلم (يوميات نائب فى الأرياف) لصاحب القصة الراحل توفيق الحكيم شاهدنا قاضيين، أحدهما وقام بدوره الراحل شفيق نور الدين، وكان قاضيا لديه وقت، لا يدرى فى أى شيء ينفقه، فكان يحلف الشاهد مرتين، ويحسن الاستماع إلى أطراف القضية بطريقة مذهلة، والآخر وقام بدوره الراحل حسن مصطفى، وهو قاض لابد أن يركب قطار الساعة 12 ومعه الخيرات، فكان على عجلة من أمره، بخلاف القاضى الأول، وهذا معناه أن فى الناس من عمله حسب ظروفه، إن كان مقطوعا من شجرة، أنفق وقتا أطول من المحدد فى وظيفته، بلغة الزمان: مستعجل على إيه!
وإن كان مرتبطا ببيت له فيه مطرح ومطرحة، أى مكان ومكانة ولو بالإيهام أخذ ينظر فى ساعته، يتعجل الرحيل عن عمله، ومغادرته حتى يعود إلى ركن الحبيب، ولم تتخلف هذه الظاهرة، بل أخذت صورا متعددة كلها لا يمت إلى دين الله بصلة، ومن عجائب ما نرى من ذلك أن أماكن العمل صارت مستودعا للشكاية من ظروفنا، فنحن ننفق الأوقات فى سرد مشكلاتنا الخاصة، ومعاناتنا الحياتية، بحيث يعرف المدير قصة العامل من ساسه لراسه، وماذا حدث له بالأمس، وماذا سيفعل اليوم وغدا، أمه المريضة، ماذا قال فيها الطبيب؟ وهل سيجرى لها العملية، وكم تتكلف؟ وهات يا جمعيات، وهات يا (لموله يا جدعان.. غلبان وظروفه زى البادنجان البايظ، ويوم لك ويوم عليك).
وهذا بخلاف المجاملات المعقولة فى عزاء أو فى عرس، ما أقصده هو تحول أماكن العمل إلى شخصنة عجيبة، بحيث لا تدرى هل أتينا لنعمل، ونعطى العمل حقه، أم أتينا إليه لنحكى الحكايات، وهناك ما لا يخفى من الاستئذان من أجل قضاء مصالحنا الشخصية، ما فيش غيرى، مين ح يوديها؟ ومين ح يجيبها من المدرسة، ومين ح يروح معاها لبتاع الأجهزة، وأصل العربية عند ميكانيكى حرامى، ولازم أجيب اللى هو طالبه بنفسى، مش مأمون آه، أبو عشرة يقول بعشرين.
- خليه يجيب لك فاتورة
- فاتورة! ما انت عارف التزوير فى الفواتير، هو ح يغلب؟
- طب مع السلامة
- ادعى لى أخلصها النهاردة
الخلاصة أن العمل له فضلتنا من الوقت الذى هو حقه، وعليه نتقاضى أموالا، نأكل بها، ونعطيه ما تبقى من طاقتنا النفسية، إن كان قد بقى فينا من طاقة له، والتوقف بموضوعية عند هذا الأمر سوف يكشف لنا عن مأساة ربما كانت السبب فى عدم إنتاجنا، وعدم قدرتنا على المنافسة مع دول لم تقل إنها ذات دين، فالعمل الذى هو سبيلنا إلى التقدم، ومن قبله ومن بعده رضا الله عز وجل عنا عبادة، والعبادة إذا ذكرت ذكرت فى مقدمتها الصلاة، والصلاة أوقات مكتوبة، ولا يجوز تأخيرها إلا لضرورة، ولا يجوز قصر رباعيتها إلا فى الحرب والسفر الطويل، والسفر لابد أن يكون فى أمر مباح عند بعض الفقهاء، أى أن المسافر فى معصية لا يجوز له أن يقصر الصلاة، وكذلك الصيام لا يفطر القادر عليه لغير عذر من مرض أو سفر أو كبر سن، أو عمل شاق لا يستطيع معه أن يصوم كالواقف أمام نيران الفرن، وكعمال المناجم، وانظر كيف تقدم العمل فأباح توقف العبادة المشروعة، لم يقل أحد على أصحاب الأعمال الشاقة أن يأخذوا منها إجازة حتى ينتهى رمضان لكى يصوموه، فالحياة لا تتوقف فى رمضان من أجل الصيام، وإنما يمتنع الصيام من أجل استمرار الحياة، وقضاء مصلحة الناس.
إذا علمنا ذلك كان علينا أن نفهم فقه العمل، وأن مكانه كالحرم، وأن ساعاته مقدسة، وأن اللعب فيه معصية، وأن تركه لغير ضرورة ملحة لا يجوز، بل هو حرام، وأن الكلام فيه ينبغى أن يكون لصالحه، لا لمصالحنا، ولا أريد أن أسرد ما يحدث فى الواقع من رغى السادة الموظفين، وأحاديثهم المثيرة للفزع فى غير مجال العمل، من سرد أحداث المسلسلات والأفلام، وبطولات الكرة، وأحوال اللاعبين فى الملعب، وأخلاقهم خارجه، متاهات، وهناك من ينادى زميله من أجل العمل بينما هو مستغرق مع زميل آخر فى سرد التافهات، وكل أمر فى غير مجال العمل تافه، وإن كان شكلا فى منتهى الدقة، فلابد من عرض هذا فى الخطاب الدينى، بذكر النصوص التى تدل عليه، وشرحها، حتى يسمع الناس آيات تتلى فى غير الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويقولون: ما هذا ؟ فيقال لهم: هذا هو الدين الذى قضيتم أعماركم تحسبونه ركعتين، وصيام يومين، وتلاوة آيتين، يقول تعالى فى داود عليه السلام: "وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم" وأتى بلفظ (صنعة) لم يذكر هنا الزبور، ولا غيره، وإنما ذكر صنعة من أجلها ألان الله له الحديد، وذكره سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فى سياق العمل: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبى الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده" ولو أن داود عليه السلام كان يقضى وقت الصنعة فى لغو الكلام، والمسامرة لما أعد لباسا لأحد، ونحن نقرأ سورة الكهف، وهى مختومة بقصة مهندس اسمه ذو القرنين، حين وجد قوما عبر بلسانهم ترجمانهم، فقال له: "إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا" فما كان منه إلا أن قال: "فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما"، ووصف لهم الأدوات اللازمة لإقامة السد الذى يحول بينهم وبين المفسدين فى الأرض، وقال: "انفخوا، حتى إذا جعله نارا قال آتونى أفرغ عليه قطرا"، وأقيم السد المنيع الذى لم يستطع الظالمون نقبه، ولم يستطيعوا أن يصعدوا فوقه، فحال بينهم وبين القوم المستضعفين، فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا، ثم نظر إلى السد، وقال: "هذا رحمة من ربى" والسد الذى يحول بيننا وبين الظالمين رحمة من ربنا، والمال الذى يحقق لنا حياة كريمة من رحمة ربنا، وكل ما من شأنه رفعة أنفسنا وأهلينا، ورفع راية ديننا، ووطننا من رحمة ربنا، فرحمة ربنا كى تتحقق لابد أن نبذل أقصى ما لدينا من جهد ووقت وطاقة، وإلا فلن نراها.
المشبه به عمل
الأحد:
ومن لطيف ما أذكر فى هذا السياق، وهو ما لم أتناوله قبل، وأظن أن أحدا لم يتناوله، أن التشبيه من سبل البيان الخاص، أى من تقسيماته: التشبيه والاستعارة والكناية، ومن سبل البيان العام، وهو إبراز المعانى فى أجل صوره، به وبغيره حتى المفردات، هذا التشبيه يتكون من مشبه، ومشبه به، وهما ركنا التشبيه، وأداة تشبيه، ووجه شبه، ووجه الشبه فيه هو الغاية منه، وأنت حين تقول: فلان كالأسد أو فلان أسد على التشبيه المسمى (البليغ) إنما قصدت إبراز الشجاعة فى فلان هذا، وقد قال العلماء: لابد أن يكون وجه الشبه أوضح فى المشبه به من المشبه، وقد نظرت فى قول الله عز وجل: "ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا" شبه الناقضين للعهود بامرأة كانت تغزل طوال النهار، ثم تقوم آخر النهار بنقض ما غزلت، ووجدت أن وجه الشبه فى المشبه به هو الضلال والفساد، والتخبط، وسوء السلوك، وجدت المشبه وهو أمر معنوى لصلته بالعهود، ألحق بالمشبه به، وهو أمر محسوس، وهذا الأمر خاص بالعمل الذى كان ينبغى أن تحافظ عليه العاملة التى صحت قبل أن يصحو الطير، وبذلت جهدا غير عادى فى هذا العمل الشاق، وكان عليها أن تصونه، وتستثمره، وكذلك على صاحب العهد أن يصونه، وأن يحافظ عليه، وأن يستثمره صونا للمعنى الذى حمله، وزرعا للثقة فى الناس، ويبقى السؤال: ما سر أن يكون المشبه به عملا؟ والجواب: لبيان قيمة العمل، وللتفكر فيه، وأنه ينبغى أن يكون نصب أعيننا آناء الليل وأطراف النهار، وكلمات القرآن الكريم غالية، ومهم أن يكون ذلك اعتقادنا، ما فيه كلمة من قبيل الحشو، ولا من قبيل اللغو والعياذ بالله، ولا من قبيل خبط العشواء، إنما هو النظم المعجز، والبيان الموصوف بالكمال والجلال، ومن يهتم بتلك الفريدة فسوف يجد لها فى القرآن الكريم نظائر، من ذلك تشبيه الحق تعالى الذين اشتروا الضلالة بالهدى بالسارى ليلا، كلما بدا لهم نور مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، فى سورة البقرة: "يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير".
وفى سورة النور: "أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب" وما من شك أن الذى رأى السراب فى الصحراء لم يكن مجتازا لها إلا من أجل سعى وعمل، ولا يتسع المجال هنا للتتبع والسرد، لكن الظاهرة موجودة شائعة لبيان قيمة العمل الذى لولاه لما قامت للحياة قائمة.
من أمهات كتب الفقه
الاثنين:
ومن أمهات كتب الفقه نجد هذه المسألة: إذا استأجر مستثمر رجلا من بلد ما، ألفوا يوم العمل عندهم ينتهى فى وقت العصر، فالحكم الشرعى أن يكون عالما بذلك، يعاملهم كما عرفوا وألفوا، أو يقول لهم: اليوم عندكم من طلوع الشمس إلى العصر، وهو عندى إلى غروب الشمس، ويزيدهم فى الأجر، والشاهد أن وقت العمل ما بين المعهود المعروف عند أهل بلدة ما، وبين المعهود عند صاحب العمل، أى صاحب المال الذى به يستأجر العمال لتنمية هذا المال، واستثماره، ولابد من الاتفاق، ثم يكون بعد الاتفاق عمل جاد منجز، لم يكن لأحد أن يتصور أن المتفق عليه من ساعات العمل يدخل فيها السمر وتبادل أرقام الهواتف، والرد على الرنات، وشوية واتصل بيك، وحاضر، وفلان بيسلم عليك، وتحب تكلمه، خد أهو معاك اهوه.
ولو كنا أصحاب دين هو عصمة أمرنا كما نقول فى دعائنا، وأصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا لدخل كل موظف مؤسسته التى يعمل بها مسلما هاتفه المحمول لأمن تلك المؤسسة، ولعلم أهله ومحبوه أنه من المحال أن يرد عليهم فى ساعات عمله؛ لأنه فى صلاة، أو فى طواف حول بيت الله الحرام.
من يجيز هذا؟
الثلاثاء:
استمعت إلى محاضرة لأستاذ جامعى، قال فيها كلمتين، ثم سمعت أجراس هاتفه، ورده على من اتصل به، وهات يا كلام، لا صلة له بهذا الوقت الذى هو مقدس، فضيعه فى مكالمة، ثم قال لتلاميذه: معلش يا اولاد، نعود إلى موضوعنا، احنا كنا بنقول إيه ؟ وسمعت همهمات من طلابه يذكرونه بما كان يقول، فقال: آه شوفوا بقى: هذه المسألة، وقبل أن يذكر خبر المبتدأ سمعت أجراس هاتفه، وسمعت جوابه من اتصل به، وهات يا لا، وهات: ما حصلشى، وهو راح فين، وعمل إيه ؟ وانقضى وقت أطول من الأول، ثم قال: طيب يا اولاد، نكمل فى المحاضرة الجاية، وانتهت المحاضرة، فمن يجيز هذا ؟! من يقول إن هذا سلوك إنسان فى قلبه نبض ضمير فضلا عن نبض دين!.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة