شيوخ المآتم.. «بيزنس 5 نجوم»! - صورة أرشيفية
شيوخ المآتم.. «بيزنس 5 نجوم»! - صورة أرشيفية


شيوخ المآتم.. «بيزنس 5 نجوم»!

محمد قنديل- أميرة شعبان

الجمعة، 10 يناير 2020 - 06:17 ص

- 60 ألف جنيه في الليلة الواحدة.. وسماسرة للتعاقد.. و«هتيفة» للترويج
- نقابة القراء: متاجرة بالقرآن والمجتمع شريك أساسي في تزايدها
- علماء الدين: مهنة يصعب ضبطها.. والعزاء تحول إلى «منظرة اجتماعية»
- القراء: «محدش بيضرب الناس على إيديها»
- علم الاجتماع: وجاهة زائفة.. والتوعية الدينية أبرز الحلول


يرتدى «الجبة والقفطان» وعلى رأسه طربوش أحمر ملفوف بعمامة بيضاء، جالساً على مقعد يتلو آيات القرآن.. مشهد يسيطر دائماً على المآتم التي يعد المقرئ العنصر الأساسي فيها، ولكن خلف الستار يكمن «بيزنس» كامل في هذه المهنة يستغله بعض القراء لتحقيق الربح الوفير.

أصبح هناك تسعيرة مبالغ فيها لكل قارئ تصل لآلاف الجنيهات يرفض النزول عنها، ناهيك عن ظهور السماسرة في هذا المجال، وتواجد دخلاء ليسوا بالمستوى المناسب لتلاوة آيات الله، فتحولت قراءة القرآن إلى نوع من التجارة، في ظل بحث البعض عن الوجاهة الاجتماعية والتفاخر بإقامة المآتم بمبالغ كبيرة مما يشجع القراء على رفع الأسعار.. «الأخبار» تناقش في هذا التحقيق أبعاد الموضوع وتتحدث مع الخبراء والمسئولين لإلقاء الضوء على الأسباب ومحاولة وضع حلول مناسبة.


بعد وفاة عمه الأكبر، أخذ فى البحث عن قارئ مناسب لتلاوة القرآن فى المأتم الذى تكلف الآلاف مثلما يفعل الكبار فى قريته بمحافظة القليوبية، محمود على «موظف»، نصحه البعض بشيخ له سيط يمكن أن يشارك فى المأتم، ولكن بعد التواصل مع القارئ رفض فى البداية بسبب المقابل المادى الكبير الذى طلبه.

فيقول على إن الشيخ «م.ي» طلب الحصول على 25 ألف جنيه مقابل المشاركة، وبعد محاولات عديدة لتخفيض المبلغ رفض القارئ بحجة أن اسمه كبير ولا يمكنه القبول بأقل من هذا المبلغ، وفى حال الموافقة على تخفيضه سيتكرر الأمر معه فيما بعد. ويتابع أنه بعد دخول بعض الوسطاء وافق القارئ على تخفيض المبلغ ل20 ألف جنيه بشرط عدم الكشف عن السعر والتأكيد على أنه تم الاتفاق على 25 ألفا.

مبالغ كبيرة

تحدثنا مع عدد من المقرئين لمعرفة ردهم على الموضوع، وتوضيح أسباب ارتفاع الأسعار بشكل كبير.

«محدش بيضرب الناس على ايديها»، جملة بدأ بها القارئ الشيخ حجاج رمضان الهنداوى حديثه، مؤكداً أن المواطن غير مُجبر على دفع مبالغ كبيرة مقابل استقدام قارئ فى المآتم، فالاختيار يمكن أن يتجه إلى الشيوخ الأقل سعراً بكل بساطة.. فيقول: «الشيخ بيطلب السعر المناسب ليه، واللى مش عاجبه ميجبهوش». ويتابع أن الحديث عن ارتفاع الأسعار بين المقرئين غير مبرر، فلماذا إذاً لا يتم النظر إلى أسعار الفنانين والمطربين الكبار الذين يتقاضون بالملايين؟، فالمبالغ التى يحصل عليها القراء مناسبة ولا تعد مرتفعة، فعلى سبيل المثال الشيخ محمد الطبلاوى وهو أحد رموز المقرئين كان يتقاضى فى فترة الثمانينات والتسعينات ما يقرب من 20 و30 ألف جنيه وهو رقم كبير فى ذلك التوقيت.

ويضيف الهنداوى أن المواطنين فى الوقت الحالى أصبحوا يبحثون عن المقرئ صاحب السعر المرتفع كنوع من التفاخر والتباهي، فهناك العديد من المآتم التى يصرف عليها أصحابها بشكل كبير وبالتالى تحتاج إلى قارئ على قدر كبير من الكفاءة.. ويؤكد أن الفارق فى اختلاف الأسعار بين قارئ وآخر يرجع إلى عدة عوامل أبرزها الأداء والصوت، كما أن التكلفة نسبية يمكن أن تتغير من مكان لآخر أو عند المجاملة، فأحياناً يذهب للقراءة فى مأتم بسعر قليل فى حال وجود صلة صداقة أو قرابة مع صاحبه.

من جانبه يقول القارئ الشيخ ياسر الشرقاوي، إن المشكلة تكمن فى انتشار سماسرة القراء، وهى فئة جديدة ليس لهم مهنة يقومون بالاتفاق مع أصحاب المآتم للتعاقد مع المقرئين بمقابل نسبة من المبلغ، حتى أصبح الأمر أشبه بالتجارة.

ويتابع أن بعض المآتم في الوقت الحالييغ يب عنها الوقار، فيتواجد «الهتيفة» وهم مجموعة من الأشخاص يجلبهم معهم بعض المقرئين للمدح أثناء تلاوة القرآن، فتتواجد الأقاويل مثل «الله ينور عليك يا شيخنا» وغيرها.. ويضيف أن الأسعار حالياً تصل إلى 60 ألف جنيه خاصة فى المآتم التى تحتاج إلى السفر لمحافظات الصعيد مثلاً، وأحياناً يتعاقد المقرئ على تحمل كافة الفراشة والخدمات التى يحتاجها المأتم، مما يؤكد أن الوضع أصبح مجرد «بيزنس».

ويشير الشرقاوي إلى أن معظم المقرئين الآن أصبح لديهم كتيبة تقوم بالاعلانات والتسويق على السوشيال ميديا والمواقع الإلكترونية، كما أن اللقاءات التلفزيونية تتحول أيضاً إلى دعايا يستغلها المقرئ لصالحه.

سوء فهم

عقب تواصلنا مع مجموعة من القراء اتجهنا إلى النقابة العامة لهم لنتعرف على أوجه التصدى لمثل هذا الاستغلال، فيؤكد الشيخ محمد صالح حشاد، شيخ عموم المقارئ المصرية، ونائب نقيب النقابة العامة، أن أجر القارئ لا تتحكم فيه النقابة، وأنه يذهل بشخصه من مطالبة البعض لمبالغ تصل إلى 100 ألف جنيه.

ويضيف أن ذلك إن دل على شىء فإنما يدل على «سوء فهم» المجتمع بأفراده لدور القارئ، فالعديد يعتقد أنه كلما زاد أجر القارئ كان جيداً، وهذا للأسف نابع من أن الآذان لم تعد تسمع وتحكم وتفاضل، فلا يوجد سامع للقرآن أو النثر أو الشعر فى وقتنا هذا. ويشير إلى أن المجتمع شريك أساسى فى تفاقم هذه الظاهرة، لذا على الجميع الامتناع عن القبول بدفع مثل هذه المبالغ، التى تدفع فى الغالب من مال المتوفى الذى هو حق شرعى للورثة من بعده. وعن المعدل الطبيعى للمبلغ المتحصل عليه يوضح أنه من المقبول أن يأخذ القارئ 5 أو 10 آلاف إنما ما زاد عن ذلك فهو أمر غريب ومبالغ به.

متاجرة بالقرآن

يشير حشاد إلى أن هذه الظاهرة تعد متاجرة بالقرآن الكريم، فهناك من يعمل يوميا فيتحصل كل شهر على 300 ألف جنيه من قراءة القرآن، والكارثة أن العديد منهم لا يحفظ القرآن كاملا بل ما عليه هو حفظ الربع المخصص لليلة أو العزاء، واحيانا أيضا نجد بها أخطاء كبيرة للغاية ويكون الامر مصورا صوتا وصورة.

على الجانب الآخر يؤكد حشاد أن هذا لا يعنى عدم أخذ أجر لكن الاعتدال هو الحل، وعن الرقابة على هؤلاء القراء أشار حشاد أنه لا توجد جهة محددة تراقبهم، إنما المسئولية تقع على الجمهور فيستطيع التحكم فى المبالغ التى يدفعها، خاصة وأنهم لا يدفعون ضرائب عن الأموال المتحصلة من الليالى أو سرادق العزاء، لأنه لا توجد أوراق رسمية بذلك، فهى فى النهاية أموال ضائعة على الدولة. ويوضح حشاد أن العديد من القراء المتواجدين على الساحة لا يستحقون هذه الأجور.

فرح أم مأتم

برزت فى الآونة الأخيرة مظاهر دخيلة على المآتم ومنها التفاعل مع القارئ والهرج والمرج الذى يحدث أثناء قراءة القرآن، فيقول حشاد «الموضة على الساحة الآن أن يأخذ القارئ معه ميكروباصا أو اثنين محملين بأشخاص لكى «يحيوه» فيحدث نوع من الإعجاب به ويستشعر البعض أن صوته متألق فتزداد شهرته ويرفع أجره.

وأكد أن وسائل التواصل الاجتماعى والبث المباشر زادوا الامر سوءا، فأصبح القراء غير المعتمدين من الإذاعة والتلفزيون يحصلون على مبالغ أعلى من القراء المعتمدين، بعد تناقل فيديو واثنين لهم على تلك المنصات.

مسئولية الرقابة

من جانبها تؤكد د.آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، أن القراء يتعاملون مع هذا الأمر على أنه جهد شخصى وعمل حر، لذا فهى من المهن التى من الصعب وضعها تحت الرقابة أو الانضباط، سواء الضريبى أو المالي، لتصبح من الأمور المنفلتة، إن لم يكن هناك ضمير شخصي. وتضيف آمنة قائلة «أتمنى منهم أن يقدموا للجميع كتاب الله فى السراء والضراء، بشكل نحترم فيه أوضاع الأسرة المصرية ودخولها المختلفة، فلا نذبحهم ونستغل المناسبة التى يريدون احياءها».

«الأصل فيه أنه هداية للناس، والأصل فى حملة القرآن أنهم حملة الأمانة التى عجز عن حملها السماوات والأرض والجبال بما يحمله من أنوار وأسرار وبركات وعطايا، وحينما يتبدل هذا المعنى إلى سوق تجارى يتصارع فيه الناس، فهذا لا يمت إلى دين الله بصلة» هكذا لخص السيد شلبي، من علماء الأزهر الشريف، الحال فى الآونة الأخيرة.

ويؤكد أنه قديما قراءة القرآن فى العزاء لم ترد عن سيدنا النبي، إنما وردت عن المجالس الطيبة، ومع تبدل الزمن أصبح عزاء كبيرا، ثم تحولت مجالس العزاء إلى شىء من الغيبة والنميمة وشرب السجائر، فانقذ البعض الموقف بأن ينشغل الحاضرون بقراءة القرآن فكل منهم يقرأ جزءا ويهب أجره للمتوفي، وهذا كان الأنسب، ثم مع تبدل الزمان مرة أخرى، وجدوا أن هناك من هم أحسن صوتا فاستعانوا بهم لقراءة سورة معينة ثم الختمة والدعاء، أما الآن أصبح سوقا تجاريا كل شيخ يسجى ببضاعته.

ويضيف أنه اذا اشترط القارئ مبلغا فقد أجرم فى حق كلام الله، ولكن لو تقديرا من أهل المتوفى فهذا جائز وهذا ما كان يحدث قديما، لكن المجتمع هو السبب الآن فى رفع الأجور بشكل كبير بقبوله بهذه الأرقام، فنحن فى أزمة اجتماعية كبيرة.

صدقة جارية

فى نفس السياق يقول شلبى إنه بدلا من دفع 50 أو 100 ألف جنيه للقارئ، يمكن الاستعانة بقارئ يأخد ألفي جنيه مثلا، ثم يتم عمل صدقة جارية أو عمل خيرى للقرية او المنطقة على روح المتوفي، فمن يطلب شيخا بأجر مرتفع فهو هنا لا يطلب كلام الله بل يسعى ل»صوت وصيت»، صوت من القارئ وصيت عند الناس ليقال إنه أحضر « فلان» فى المأتم.

ويوضح أن القارئ على خطأ كبير فيما يحدث الآن من مظاهر عجيبة، فيصطحب معه أحد المقدمين من الشباب حديثى التخرج ليقدمه للجمهور، ثم يتلو القرآن وسط تهليل من الناس، قائلاً «أين هؤلاء من قول الله: «إذا قرئ القرآن فاستمعوا إليه وأنصتوا لعلكم ترحمون»، فالعزاء ليس مكانا لعرض حُسن أصوات، انما المقام مقام عرض خضوع وخشوع وهيبة، لكنه وصل إلى فرد عضلات أيضا.

الوجاهة الاجتماعية

«الوجاهة الاجتماعية» سلوك يمكن أن يتسبب فى الاستغلال والمتاجرة حتى بتلاوة القرآن، فكيف يفسر علم الاجتماع الأمر من أسباب وحلول يمكن أن تساهم فى المعالجة؟.

تقول د. عبلة البدري، أستاذ علم الاجتماع، إن ارتفاع تكلفة القارئين بشكل مبالغ فيه، يرجع إلى الوجاهة الاجتماعية الزائفة لدى البعض، وهى ظاهرة سلبية منتشرة فى الفترة الأخيرة ترجع إلى حدوث نقلات اقتصادية لفئات لا تمتلك القدر الكافى من التعليم والمستوى الثقافى والأسري، مما لا يؤهلهم للتعامل بشكل سليم مع القدرات المالية التى يمتلكونها، وبالتالى البحث عن الوجاهة الزائفة أو «الفشخرة» للشعور بالانتماء لطبقات رفيعة المستوى.

وتتابع بأن هذه الظاهرة تعد سبباً رئيسياً فى استغلال بعض القارئين للأمر نتيجة التباهى بدفع مبالغ واستقدام قارئ شهير يتقاضى الآلاف مقابل تخصيص بعض من الوقت لتلاوة القرآن فى المأتم، وكأنه مطرب معروف، مما يحول هذه المهنة إلى نوع من المتاجرة وتحقيق أرباح كبيرة، فى ظل المزايدة فى الأسعار من قبل المواطنين وشعور البعض من القارئين بالمكانة الكبيرة والشهرة التى تسمح لهم بالحصول على مبالغ ضخمة تليق بأسمائهم.

وتضيف البدرى أن هناك حلولا توعوية تقع المسئولية الكبرى فيها على رجال الدين، بالإضافة إلى الجانب النفسى والشعور بالرضا وعدم الانسياق إلى التقليد والمزايدة.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة