عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

الوصفة الوحيدة لمحاربة الفساد

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 13 يناير 2020 - 07:49 م

 

ربما كانت المناسبة مواتية جدا لالتقاط صور تذكارية جميلة لأكثر من 120 شخصا من مسئولين رسميين ممثلى الحكومات العربية وشخصيات قضائية ومندوبين عن القطاع الخاص والمجتمع المدنى، ومن خبراء ومتخصصين قيل إنهم التأموا بمدينة مراكش المغربية قبل أسبوع من اليوم، وتداولوا فيما سموه بإعداد وتنفيذ وتقييم استراتيجيات مكافحة الفساد، وبحث التحديات والإكراهات التى تواجه جهود القضاء على هذه الآفة الخطيرة جدا، وهى الاجتماعات والمؤتمرات واللقاءات الكثيرة والمتعددة التى انعقدت لحد الآن، وصرفت عليها المبالغ المالية الطائلة، ولكن الفساد لم يزد إلا استشراء واستفحالا فى العديد من الأقطار العربية، مما يمكن معه القول إن الفساد اعتاد مثل هذه الردود وطبع معها، ولم تعد تمثل أى هاجس للفاسدين.


نبدأ الحديث عن هذه الظاهرة التى حازت فجأة اهتمام بعض الأوساط العربية، لأنه قبل أيام قليلة من لقاء مراكش التقى برلمانيون عرب ينتمون إلى شبكة مناهضة الفساد بالعاصمة القطرية، بما كشف عنه تقرير مؤشر مدركات الفساد للعام الماضى، والذى أصدرته منظمة الشفافية الدولية التى تتخذ من العاصمة برلين مقرا لها من أن ست دول عربية احتلت مكانة متقدمة فى قائمة العشر دول الأكثر فسادا فى العالم، وهو التقرير الذى قام بتصنيف 176 دولة فى مؤشر الفساد، تبوأت فيه كثير من الدول العربية مواقع بارزة ومتقدمة، وفى هذا التصنيف بيانات ودلالات كثيرة وحقائق متعددة على طبيعة الوضع المريح جدا الذى يوجد عليه الفساد فى كثير من البلدان العربية، وطبعا لسنا فى حاجة إلى التذكير بأسماء هذه الدول، ليس تجنبًا للإحراج، ولكن لأن الفساد ملة واحدة فى مجموع المنطقة العربية، والاختلاف يبقى محصورا فى التباينات بالمواقع المتقدمة طبعا.


والحقيقة التى لا يمكن حجبها بلقاءات وبمؤتمرات لا تصلح إلا لالتقاط الصور وللترويج المغلوط لمحاربة الفساد هى أن الوصفة العلاجية الفعالة للقضاء على الفساد أو لتخفيف وطأته وتحديد تداعياته واضحة ولا تحتاج إلى كبير جهد يذكر.
إن الفساد يجد تربته فى الدول التى تعانى ضعفا قويا فى المؤسسات الدستورية، ويفتقد القضاء فيها إلى الاستقلالية الحقيقية التى تمكنه من أن يطال جميع الأفراد والجماعات داخل الدولة مهما كانت مواقع مسئولياتهم، ومهما علا جاههم داخل المجتمع، ويواجه فيها القانون صعوبات كبيرة وعويصة أمام النفاذ، وتنعدم فيها مؤسسات الرقابة من وسائل إعلام مستقلة ومجتمع مدنى مستقل، وتغيب فيها مؤسسات الترشيد والحوكمة والتقييم والشفافية، وينخفض فيها مستوى الوعى الفردى والجماعى بالخطورة البالغة لآفة الفساد بسبب ضعف التعبئة العامة وإشراك المواطنين فى مختلف الجهود الهادفة إلى محاربة هذه الظاهرة المقيتة، وأيضا لغياب المعلومة بسبب عدم وجود قانون يجبر مختلف الأطراف على الكشف عن المعلومة، ونحن ندرك أن الفساد يستشرى فى المناطق المظلمة التى تغيب عنها شمس المعلومة.


نعم، إن الظاهرة اكتست طابع العالمية بسبب النظام الاقتصادى العالمى الفاسد أصلا، وفى هذا السياق سبق للأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو جوتيريس أن أكد خلال جلسة نقاش مفتوحة أمام مجلس الأمن الدولى أن حجم الرشاوى التى يدفعها الأفراد والشركات حول العالم وصل مستوى غير مسبوق إذ تعدى تريليون دولار أمريكى سنويا، وإذا ما أردنا التدقيق فى حجم هذا المبلغ الخطير والمذهل فإننا نشير إلى أنه يعادل 5 بالمائة من الناتج الإجمالى العالمى. وهذا يعنى أن تداعيات الفساد لا تتوقف عند حد هذه الأرقام الجافة، ولكنها تمتد لتتسبب فى انخفاض معدلات النمو وتعميق الهوة فى مجال المساواة بين الأفراد والجماعات والمناطق والزيادة فى مؤشرات الدخل بين الأفراد، والأهم من ذلك أنها تتسبب فى إضعاف منسوب الثقة فى الدولة ككيان يحفظ حقوق الجميع، لأن الفرد الذى يكون مجبرا على دفع رشوة للاستفادة من خدمة اجتماعية أو خدمة من مرفق عام، فإنه لن يكون مطمئنًا للدولة التى ينتمى إليها، وبذلك يهترئ حبل المواطنة الذى يربطه بالوطن، وأن الشركة التى تدفع رشوة مباشرة أو عن طريق العمولة لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تكون شركة مواطنة.


والواضح أن التجارب الرائدة التى واجهت ظاهرة الفساد لم تنجح فى ذلك فى مؤتمرات الصالونات، ولا بالشعارات وبالحملات الدعائية، ولا بالخطط التى تبقى حبيسة الرفوف، ولا بالبرامج التى يكون الهدف منها التعويم والإلهاء، بل إنها حققت ما حققته بالوصفة الوحيدة للقضاء على الوباء والمتمثّلة أساسا فى الإقدام بشجاعة وبجرأة على إصلاحات عميقة تهم بنية الدولة برمتها، إصلاحات سياسية واقتصادية وقانونية وأخلاقية تكون كفيلة بتحصين المجتمع من جميع مظاهر اختراقات الفساد، إذ من الحمق الحديث عن محاربة الفساد فى دولة تفتقد لأبسط مظاهر دولة الحق والقانون، فى هذه الحالة فإن الأمر يقتصر على التمويه والإلهاء، بل إن محاربة الفساد تجد مستنبتها الحقيقى فى الدولة القوية، ليس بأجهزة أمنها وبخوف المواطنين، بل فى دولة يسود فيها القانون على الجميع، فى دولة لا يجرؤ مسئول ما، وإن كان حاكما بأمره على أن يرفع سماعة هاتفه ليعطى أوامر ما لقاض.


لذلك لم تعد اجتماعات النادى والصالونات تخيف الفساد ولا ترتعش فرائض الفاسدين منها.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة