فيلسوف «الكسل» الأديب ألبير قصيري
فيلسوف «الكسل» الأديب ألبير قصيري


حكايات| فيلسوف «الكسل» المصري.. «كم هو مؤسف أن تستيقظ كل صباح»

د.محمد كمال

الإثنين، 13 يناير 2020 - 11:02 م

 

اعتذَر مرة عن قبول جائزة أدبية لأن موعد الحفل كان الساعة الـ10 صباحاً، فلسفته في الحياة قائمة على الكسل، وله وجهة نظر مختلفة وغريبة جدًا مكنته من أن يصبح واحد من أشهر الكتاب والفلاسفة في العصر الحديث.


إنه الأديب ألبير قصيري الذ تفرد عن الجميع بالحصول عن جدارة واستحقاق على لقب «فيلسوف الكسل»، لأنه كان ينام طوال النهار ويسهر الليل، ومن أشهر أقواله، «كم هو مؤسف أن تستيقظ كل صباح لترى أشكالاً تسد النفس».

الكسل أسلوب حياة
طبقًا لوجهة نظره وقناعته الشخصية الإنسان الكسول هو وحده الذي يمتلك الوقت للتأمل في الحياة والكلام عنها دون أن يعبأ بالوقت، على عكس من وصفهم بأسرى الحداثة الذين يلهثون كـ«ثيران مطيعة» في ساقية العمل ويدورون مدة حياتهم القصيرة وراء أوهام حيازة المال والشراء والتملك.

قال في مقدمة روايته «طموح في الصحراء» عندما سُئل، لماذا تكتب؟ أجاب «حتى لا يستطيع أن يعمل في الغد من يقرأ لي اليوم»، هذه الحالة في مديح الكسل كانت جزءًا من التكوين الشخصي للأديب ألبير، وانتقلت عدوى هذه الحالة إلى أبطال رواياته والتي دارت أغلبها في مصر.


الكاتب الراحل ألبير قُصيري الروائي المصري الفرانكفوني، الذي لُقب بفولتير النيل، وأوسكار وايلد الفرنسى، وباستر كيتون العربى، ولد في 3 نوفمبر 1913، بحي الفجالة في القاهرة، لأبوين مصريين أصولهما من الشام وتحديدًا من بلدة القُصير قرب حمص في«سوريا»، كانت عائلته من الميسورين حيث أن والده كان من أصحاب الأملاك، تلقى تعليمه في مدارس دينية مسيحية.


زواج فاشل
عمل في البحرية التجارية بين عامي 1939 و1943، ما أتاح له زيارة العديد من الأماكن منها أمريكا وإنجلترا، زار فرنسا لأول مرة عندما كان في السابعة عشرة من عمره، وانتقل إلى مدرسة الجيزويت الفرنسية، حيث قرأ لبلزاك وموليير وفيكتور هوجو وفولتير وغيرهم من كبار الكتّاب الفرنسيين الكلاسيكيين، ثم قرر أن يستقر في فرنسا عام 1945، وكان حينها في الثانية والثلاثين من عمره، تزوج قُصيري من ممثلة مسرحية فرنسية، لكن لم يدم هذا الزواج طويلًا، وعاش بقية حياته أعزب، «وحين كان يُسأل عن السعادة، كان يقول أن أكون بمفردي».


كان قصيري شديد الوعي بروح الثقافة الغربية خلال الفترة التي عاصرها، فقد كان صديقا لمجموعة من الكتاب الفرنسيين مثل جان بول سارتر،ولورانس داريل وهنرى ميللر، وسيمون دو بوفوار، والبير كامي الذي كان الأقرب له انسانيًا وأدبيًا ربما بسبب أصولهما الشرقية التي صبغت شخصيتهما بسمات مشتركة، وأصبحوا جميعًا فيما بعد أصدقائه وتأثر بهم وأثر فيهم ودامت صداقاتهم ولقاءاتهم، طول 15 عامًا في مقهى كافيه «دو فلور».


فيلسوف عاطل بالوراثة
عاش قصيري، في غرفة بفندق «لا لويزيان» في شارع السين في الحي السادس الباريسي لمدة 63 عاماً بلا انقطاع، كعاطل بالوراثة، يراقب الناس والكائنات والأشياء من حوله حتى صار من فلاسفة الكسل، كانت فلسفة قصيري في حياته هي فلسفة الكسل، لم يعمل في حياته، وكان يقول إنه لم ير أحدًا من أفراد عائلته يعمل، الجد والأب والأخوة في مصر كانوا يعيشون على عائدات الأراضي والأملاك، أما هو فعاش من عائدات كتبه وكتابة السيناريوهات، وكان يقول «حين نملك في الشرق ما يكفى لنعيش منه لا نعود نعمل بخلاف أوروبا التي حين نملك ملايين نستمر في العمل لنكسب أكثر»، تقاسم قُصيري فكرة رفض العمل والوظيفة والالتزامات الاجتماعية وتبنى فلسفة الكسل مع الكثير من الكتاب الآخرين مثل الكاتب الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون الذي أكد كثيرا على ارتباط القدرة على البطالة بوعي الشخص بهويته والكاتب النرويجي كنوت هامسون الذي كان يميل إلى تصوير شخصيات أدبية متسكعة وغير ملتزمة والكاتب الكبير هيرمان هيسه الذي صور شخصيات لها نفس الطبيعة. 


روائي مصري يكتب بالفرنسية
بدأ ألبير قُصيري الكتابة في سن العاشرة، وكان يصف نفسه بالكاتب المصري الذي يكتب بالفرنسية، ونجح في فرض نفسه على الوسط الأدبي الفرنسي، ليصير واحدًا من أهم رموزه، ككاتب مصري يكتب بالفرنسية، ولكنه لا يحكى إلا عن مصر، ويتتبع صورتها من داخل ذاكرته، وترجمت أعماله إلى 15 لغة، منها العربية، ولم يكن راضيًا عن نسخة الترجمة العربية بسبب الحذف الذي تم من قبل الرقابة، وقد ترجم له بعض رواياته محمود قاسم وصدرت في القاهرة، كانت مصر دائما مسرح رواياته وشخصياته من المصريين البسطاء، ورواياته وأعماله هي، «لسعات1931 وهو ديوان شعري نشر في القاهرة،وبشر نسيهم الرب 1941، وهى مجموعته القصصية الأولى، وصدر له بالقاهرة بيت الموت المحتوم 1944، وتنابل الوادي الخصب 1948، والعنف والسخرية 1962، وشحاذون ومتغطرسون، طموح في الصحراء، مؤامرة مهرجين، موت المنزل الأكيد، ألوان النذالة».


جميع أعمال قُصيري بلا استثناء، سواء تلك التي كتبها عن القاهرة «وهي معظمها»، أو روايته الوحيدة عن الخليج العربي «طموح في الصحراء»، يسكنها هذا الولع بالكسل والخمول، وأبطاله صورة منه كما كان يقول، «شخصياتي هي أنا، تفكر مثلي، وكسالى من طراز فريد، يقاومون جرائم الطموح جميعها ويدبجون مقولات ساخرة منها، هم ساخرون لكن أحرار، يفتقدون إلى التأثير في محيطهم السياسي والاجتماعي لكنهم يدافعون بشراسة عن كرامة الإنسانية التي يسحقها العمل المأجور وأوهام التحديث، بلا رأفة.


رغم حصول قُصيري على العديد من الجوائز منها، جائزة جمعية الأدباء عام 1965، جائزة الأكاديمية الفرنسية للفرنكوفونية عام 1990، جائزة أوديبرتى عام 1995، جائزة البحر المتوسط عام 2000، جائزة بوسيتون لجمعية الأدباء عام 2005، إلا أنه لم يطلب الحصول على الجنسية الفرنسية على الإطلاق، وكان يؤكد «لست في حاجة لأن أعيش في مصر، ولا لأن أكتب بالعربية، فإن مصر في داخلي وهى ذاكرتي»، وعندما سأله  الروائي العراقي شاكري نوري، هل تعتبر نفسك كاتبا فرنسيا أم مصريا؟، ابتسم قائلًا، إنني وقبل كل شئ أعتبر نفسي كاتبًا مصريًا، أكتب باللغة الفرنسية وأنت تعرف معظم الكتاب الهنود أمثال طاغور كانوا يكتبون بالانكليزية، ورغم ذلك يعتبر طاغور كاتبًا هنديًا، ورغم شهرته العالمية وحصوله على العديد من الجوائز الهامة في المشهد الإبداعي الفرنسي فإن كثيرين من الأجيال الجديدة من المبدعين المصريين لا تعرف أعماله الإبداعية وربما لا تسمع عنه من الأساس.


الموت داخل فندق لويزيان
سأله أحد الصحفيين في حوار له في «مجلة Lier» قبل سنوات من وفاته، كيف تريد أن تموت؟ قال: على فراشي في غرفة الفندق الذي أعيش فيه، وقد تحقق له ما أراد، حيث توفى ألبير قُصيري فى 22 يونيو 2008 عن عمر ناهز 94 عامًا بغرفته بفندق «لا لويزيان»، وكان يعاني  في أخر عشر سنوات من حياته من الصمت الذي أصابه إثر أصابته بسرطان الحنجرة عام 1998، والذي كلفة عملية جراحية أفقدته حباله الصوتية، كانت الإشارة والكتابة كفيلة بالرد على أسئلة من يشاركه طاولته بمقهى «كافي دوفلور» من الأصدقاء والصحفيين، والمسافة ما بين ميلاد قصيري، ورحيله لم تتجاوز بضعة روايات ومجموعة قصصية وديوان شعري، وتلك الرحلة الإبداعية تسجل مفارقة من مفارقات قصيري، فالكاتب الراحل رغم طول فترة حياته «94 عام» لكن إنتاجه كان قليلًا بصورة لافتة، حتى كان يقال إنه يكتب جملة واحدة كل أسبوعين بسبب كسله.


 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة