إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


بالشمع الأحمر

عد تنازلى!

إيهاب الحضري

الأربعاء، 15 يناير 2020 - 06:29 م

 

عندما اقترب من منتصف الخمسينيات بدا مُنشغلا بالموت، يقرأ كل ما يُكتب عنه، ويهتم بمنشآته التى تميز المصريون فى إبداع جمالياتها، لدرجة أنهم منحوها جاذبية تُضفى على الرحيل رونقا قد يتعارض مع طبيعته الحزينة. كان غالبيتنا فى مقتبل الشباب، لهذا تابعنا اهتمامات الأديب الكبير جمال الغيطانى بدهشة، فمرحلتنا العمرية فى ذلك الوقت كانت مُفعمة بالبهجة رغم المُنغّصات العابرة. وكان الرجل يتابع رد فعلنا ولا يتكلم، فهو مدرك أن لكل عُمر سماته، وربما كان يُشفق علينا وقتها من الدخول فى الدائرة نفسها بعد سنوات.
قبل عامين تجاوزتُ الخمسين، وبدأتُ أستوعب حالة الأديب الراحل، التى أصبحت تسيطر علىّ مع استقبال كل عام جديد، وتستمر أياما إلى أن تحل ذكرى ميلادى، ثم تفاجئنى بزيارات مُتقطّعة على مدار العام، مع اكتشاف مرض جديد يحل ضيفا علىّ، حتى أصبح الشعور بالسعادة أشبه بالمعجزة! صارت الأعصاب تشتعل مع كل مشكلة مهما بلغت بساطتها، لأدرك أن العصبية التى اجتاحت أهالينا فى سن ما، لم تكن مصطنعة، فهم لم يكونوا يصنعون من» الحبة قُبة»، مثلما يقول المثل الشعبى الدارج، بل فرض عليهم الزمن ذلك بينما كنا نعيش أزمانا مُغايرة.
لا تُعتبر الكلمات السابقة مرثية مُبكرة، وأتمنى ألا تكون نبوءة بأمر ما، لكنها مجرد تعبير عن شجون ذاتية، وسط حياة تتسرب من بين أيدينا. خلال العام المُنتهى فقدتُ معارف رحلوا فجأة، وتابعتُ آخرين هاجمتهم أمراض لا يُستهان بها، لأفاجأ بأن إحساسى الداخلى بالشباب الممتد مجرد خدعة، خاصة أن السنة الماضية شهدت الذكرى الثلاثين لتخرجى فى الجامعة، بينما خدعت نفسى دائما بمشاعر الشاب حديث التخرج! تلك المشاعر الزائفة التى ظلت تقى كثيرين منا خطر السقوط فريسة إحباط ولّدته الظروف، فى زمن يرفع البعض دون حيثيات مُقنعة، ويهبط بالآخرين بغير منطق يُعتد به، ونظل نتشبث بقشة أمل تحمينا ولو مؤقتا، من أمواج متلاطمة تحيط بنا.
عندما سمعتُ أن صديقى القديم أجرى عملية قلب مفتوح، أحسستُ بأن شرايين البهجة تتصلب. ذات يوم بعيد نافسنى على حب فتاة، فانتقمتُ منه بأخرى، وبعد مشادة بسيطة احتفظنا بصداقتنا، ومضت كلتا الفتاتين لحالها، وأنهينا رحلة الجامعة أصدقاء إلى أن فرقتنا المشاغل، وتحوّلت المقابلات اليومية إلى اتصالات هاتفية تفصلها شهور، أما اللقاء فأصبح مقصورا على عزاءات متفرقة، لآباء وأمهات رحلوا بعد أداء رسالتهم. عندما زرتُه لتهنئته بنجاح العملية، كان يحاول إخفاء ألمه، فاجأنى برحيل صديق آخر، مضى فى صمت عقب حالة نفسية التهمت تفاصيله عبر سنوات، وأصبح وحيدا مهددا بالحجر عليه من أشقائه، لكن الموت أنقذه من تلك اللحظة المؤلمة. وسط كل ذلك تتابعت حكايات عن زملاء حققوا ما هو أكبر بكثير من إمكاناتهم، لمجرد أنهم عرفوا من أين تُؤكل الكتف، بينما انتصرت الأيام على غالبيتنا بلمس الأكتاف!
هل يأتى العام الجديد بمشاعر أكثر طزاجة، تطرد يأسا يفرض علىّ نفسه بالقوة الجبرية؟ سؤال عبثى دون إجابة، ومجرد أمنية ربما تتحقق، وقد تُكتب شهادة وفاتها وهى فى طور الجنين، لكنى سأحاول التمسك بالأمل، وأهوّن على نفسى بأنها حالة أصبحت معتادة فى أيام ديسمبر، لهذا استقبلتُ أول أيام يناير بتفاؤل اصطناعى، وحمدتُ الله على نعم كثيرة لا ننتبه إليها إلا إذا فقدناها. انطلقتُ بسيارتى فى طريقى للعمل، وفجأة انبعث صوت محمد منير: «بتبعدينى عن حياتك بالملل.. وخليتينى خلاص أقول مفيش أمل». أطفأت المذياع، وأدركتُ أن العدّ التنازلى قد بدأ!!

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة